رويداً أيّتها المعارضة العربيّة

والمعارضة التي أقصد هي التي تمسك بالقلم وتُنتج الأفكار، أي أهل الثقافة وأهل العمل السياسيّ والحزبيّ. وندائي إلى هذه المعارضة بالتروّي ما تابعتُه من ردودِ فعلٍ عنيفةٍ على أيّ صوتٍ يقول بإعادة النّظر وإمعانِ البصر في صِحّة تعميم الثورة، أو في صحّة مسارها كلّه. ولقد لاقى المفكّر السوريّ المعروف فراس السوّاح، ومن بعده المفكّر السوريّ عزيز العظمة، ومن بعدهما النّاقد السوريّ كمال أبوديب (وجميعهم من ذوي البصيرة النّافذة في قراءة النصّ وواقعه، وجميعهم بعيدٌ عن السلطة بُعدَ أهل التّنوير والفكر النّقديّ الشّامل) عَنَتاً من الرّدود التي وجدت فيما قالوه سفَهاً واغتراباً عن الواقع، ومجاملةً للحاكم الدمويّ، وتبرئةً له من سيل دماء شعبه!اضافة اعلان
كان من الممكنِ –في رأيي- للأفكار التي تروح وتجيء بين هذا الفريقِ وذاك أن تكون مُنتجةً وذات فاعليّةٍ إيجابيّةٍ، لو نحَتْ نحو الإصغاء والتأمّل، لا الانفعال وشطط العاطفة وغَلَبَة صوت الأمنيات. ومثل هذا أيضاً ذاك السّجال الذي احتربت فيه رابطة الكتّاب الأردنيّين بين تأييدٍ للحاكم السوريّ، أو تنديدٍ بجرائمه، في استهتارٍ واضحٍ بقيمِ الحوار، وقواعد التّفكير الحرّ من الطّرفين.
وإذا قلتُ هذا الفريق أو ذاكَ، فلست أقصد بطبيعة الحال الفريق المدافع عن الأنظمة، العائش على فسادها وشرّها وتغوّلها، والذي هو جزءٌ لا يتجزّأ من النّظام الذي سقط أو ذاك الآيل إلى السّقوط. لا أقصد أيّ مدافعٍ عن الرؤساء الذين انخلعوا (وأولئك الذين سينخلعون!!) وأنظمتهم الطّاغية، كما لا أشمل بكلامي هذا اللواتي والذين لحقوا بقطار الثّورة في آخر لحظةٍ، بعد أن سقط الحاكم الذي ألّهوه ولعقوا فُتات أفضاله أو كلّها، ليصبحوا من أهل التّنظير والتّمجيد للثورة وللثوّار!
أقصد أنّ في المعارضة الوطنيّة الحرّة النّزيهة الفاهمة المتفكّرة ما يتّفق كليّاً أو جزئيّاً مع الثّورات العربيّة (لا أتحدث عن المعارضات النّفعيّة والبراغماتيّة التي تمتطي الدّيمقراطيّة للوصول إلى الكرسي، حتى إذا وصلت سمّت نفسها ناطقةً وحيدةً باسم الذات الإلهيّة)، وهذان الاتّفاقان الكليّ والجزئيّ هما اللذان يجعلانِ من المعارضة الوطنيّة الحرّة النّزيهة الفاهمة والمتفكّرة فريقين، لكن -ويا للأسف– محتربَيْن!! وخصوصاً، أقول وخصوصاً بعد أن انقشعَ عجاجُ المعركة في تونس ومصر وليبيا عن مصائب وويلاتٍ لا يبدو لها، بعد آلاف الضحايا، (باستثناءٍ متردّدٍ لتونس) أفقٌ قريبٌ لخير أو استقرار أو بلوغ الهدف الأوّل للثورة وهو "إسقاط النظام".
للفريق المتخوّف في المعارضة أن يُعلن تخوّفه من المجهول، من انهيار الدّولة مع سقوط النّظام، وأن يُظهر رعبه من سيل الدماء وآلة القتل العمياء.. له أن يخشى على بلده من الفتنة الطّائفية التي ستغرق في مستنقعها شعوبٌ في المنطقة والتي لها حضور قويٌّ هنا وهناك.. له أن يقرأ التاريخ بعينٍ العقل الحذِر لا بعين التّمنّي والشّعور، له أن يقترحَ سيرورة أخرى للتّغيير.
ولذا، فرويداً رويداً أيّتها المعارَضة وأنت ترفضين هذه القراءة أو تلك، وأنت تمشين على الأشلاء بزهو المنتصر، وأنت تقعين في المأزق الأخلاقيّ الذي وقعَ فيه "النظام": نفيُ الآخر، والتفرّد بالحقيقة!
دعونا لا نفقد الأمل...

[email protected]