"فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة، ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين"

تحدثت سورة الأنعام في عمومها عن العقيدة، وكيفية بناء الإيمان في النفوس، وارتقاء النفس الإنسانية بتوجهها لخالقها المستحق للعبادة وحده سبحانه، وفي سياق الحديث عن الأنعام، وما حرمه الله وما حلله، وكيفية تصرف المشركين وفق أهوائهم، يحللون ويحرمون ويتبعون مصالحهم ورغباتهم، وفي سياق بيان المحرمات من الأطعمة، وعقوبة اليهود بتحريم بعض ما أحل الله لهم نتيجة لترددهم وتشديدهم على أنفسهم، يأتي قوله تعالى: "فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة، ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين".اضافة اعلان
إنه منهج القرآن، بل الإسلام عموما في الجمع بين الترغيب والترهيب، فرغم ما حرفوه وزعموه لأنفسهم من تحليل وتحريم، فالنص القرآني يقابل التكذيب بفسحة الرحمة، وليست أي رحمة، بل الرحمة الواسعة، ليعطي هؤلاء فرصة الإنابة والتوبة، فلا يحق لكائن من يكون أن يزعم حق التشريع فيما هو من حق الله تعالى، فإن كانت التوبة فبها، وإلا فلا يُرَد بأسه -سبحانه- عن القوم المجرمين.
إنه التكذيب، ولكن الله سبحانه يبدأ بعرض سعة رحمته، مع أن المتوقع أن يقال: فإن كذبوك فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين، وربكم ذو رحمة واسعة، بل بدأ بالرحمة، ثم بعد ذلك ما يبين بأس الله وشدة عذابه التي تلحق هؤلاء المجرمين، إن استقروا على رأيهم وعنادهم وتكذيبهم.
لقد استحق هؤلاء لقب المجرمين لأنهم أجرموا مرتين، بحق أنفسهم حين تآمروا على ما هو خير لأنفسهم، فلا يشرّع الله تعالى إلا ما هو خير للناس، وهو أعلم بمصالحهم، الخبير بهم سبحانه، وأجرموا بحق الله تعالى، حين تجرؤوا على حقه، فمن شأن الإله أن يطاع وحده، فلا يستحق العبادة والتوجه والدعاء واللجوء إليه إلا هو سبحانه، وهنا جاء النص بلفظ (ربكم) الدال على الربوبية، لأن المقام مقام تربية، ولأنه من البدهي أن الخالق وحده يعلم حقائق النفوس وهو الخبير بها وما يصلح لها، فكان من لوازم الإيمان به ربا وإلها أن نوقن بكمال خلقه وتشريعه وحكمته، ورحمته التي وسعت كل شيء، حتى تشريع الأحكام، لينعم الإنسان بالخير وتحقيق مصالحه، دنيا وآخرة.
هذا الدين العظيم أكمله الله تعالى، وأتم به النعمة، ورضيه لنا دينا، وهو الدين الوحيد الذي هو للناس كافة، فمما ميز الله به نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه بعث للناس كافة، بينما كل نبي آخر أُرسل إلى قومه، قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقال: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا".
جاء هذا النص في أواخر سورة الأنعام، بعد هذه التشريعات حول الحلال والحرام من الأطعمة، وعادة المشركين في التحليل والتحريم، وهي مقدمة لما جاء بعدها مما عُرف بالوصايا العشر، التي قيل إنها مشتركة بين الديانات، والتي جاءت في آيات ثلاثة: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نُكلف نفسا إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".
لا أستبعد أن يكون موضوع الهداية عموما، بما فيه من التشريع القاضي بالتحليل والتحريم، هو من لب رحمة الله الواسعة، ولا يدرك كثيرون مثل هذه المعاني، أن في تطبيق شرع الله تعالى من الرحمات ما فيها، فمع تطبيق الشريعة بركة من الله، ورضا منه تعالى لعباده، وقوة وحضارة وعزة، فالقوم ملتزمون بشرع ربهم الذي خلقهم وأمرهم بتطبيق شرعه: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، وفي شأن هذا التطبيق نقرأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا: "إقامة حد من حدود الله خير من أن يُمطَر الناس أربعين صباحا"، ويقول الله تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون!؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون".
منهج الترغيب والترهيب مطلوب في غالب شؤون الحياة، في التربية البيتية، وفي التعليم عموما، بل في الشؤون الوظيفية، فالناس بفطرتهم بحاجة إلى التحذير والتشجيع، وبنو آدم خطاؤون، وفيهم من صفات العجلة والضعف والجدل والميل إلى الدعة والعقل والعاطفة ما فيهم، والنفس أمّارة بالسوء، وكلنا كذلك، والتفاوت بيننا بحجم الوازع الديني الذي يقود إلى مراقبة الله وخشيته، أو الاستهتار بحق الله والغفلة عنه سبحانه. وكل ذلك بحاجة إلى التبشير والإنذار، الترغيب والترهيب، ولا يدري أحدنا ما الذي يصلح لأحد دون آخر، فربما يكون من أسوأ الناس، وتردعه آيات التبشير والترغيب، لا الترهيب والإنذار، ومن هنا كان من الضروري الجمع بين الأسلوبين قدر الإمكان، إلا إن كان المقام لا يسمح بأحدهما، فلكل مقام مقال، وهذه من الذوقيات التي ينبغي الالتزام بها.
تقديم الرحمة على الانتقام منهج قرآني، حتى فرعون الذي طغى وادعى الألوهية، يقول الله سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام في حقه: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر أو يخشى"، وهنا الدرس للدعاة عموما، نحن دعاة وظيفتنا جلب الناس إلى الإيمان، ونبعدهم عن الضلال، كل منا أقرب ما يكون إلى منقِذ، وما هو حال المنقذ؟ أليست مهمة تحفها الرحمة، بل ربما يضحي أحدنا بنفسه من أجل إنقاذ الناس المضطرين، وهكذا نحن ننقذ الناس من العذاب والضلال، ولا بد أن نكون في أعلى درجات الوعي والحكمة والرحمة.