فوضى المضادات الحيوية


تناقلت وسائل الإعلام المختلفة، مؤخرا، خبر اكتشاف أول حالة بكتيريا مقاومة لعلاج "الفرصة الأخيرة" في الولايات المتحدة؛ وهو أحد أنواع المضادات الحيوية التي يلجأ إليها الأطباء في حال فشل المضادات الأخرى في التعامل مع البكتيريا. وهو ما ينذر بظهور بكتيريا مقاومة للأدوية على نطاق واسع.اضافة اعلان
شكل اكتشاف عقار البنسيلين منعطفا مهما في تاريخ الطب، بل والبشرية قاطبة؛ عندما ساهم هذا العقار المضاد للبكتيريا، خلال العقود السبعة التي تلت اكتشافه، في إنقاذ حياة ملايين البشر. لكن إساءة استخدام البشر لهذا العقار ومثيلاته من مضادات الميكروبات، أدت إلى تكوّن العشرات من الميكروبات المقاومة لمعظم أنواع المضادات الحيوية، ما يؤدي إلى وفاة مئات آلاف المرضى سنويا.
إذ أدى الاستخدام الجائر وغير العقلاني للمضادات الحيوية إلى تشكيل أنواع من البكتيريا المقاومة لها؛ ذلك أن أنواع البكتيريا كافة تمتلك القابلية لأن تصبح مقاومة للمضادات الحيوية. يحدث ذلك عندما تنشأ طفرة جينية لدى البكتيريا، تمنحها القدرة على البقاء والتكاثر بوجود مضاد حيوي معين. ويفاقم المشكلة أن طبيعة هذه البكتيريا تتمتع بالقدرة على تبادل المادة الجينية فيما بينها بصورة عشوائية.
وهذه المقاومة للمضادات الحيوية لا تعترف بالحدود الجغرافية، ولا تميز بلدا متخلفا عن آخر متطور! وإن كانت نسبة المقاومة لدى أنواع معينة أعلى في الدول النامية، إلا أن الحركة النشطة للسكان بين الدول تسهم في نقل المقاومة من بلد إلى آخر؛ فليس هناك بلد بمنأى عن هذا الخطر الذي يعد تهديدا عابرا للحدود.
لقد واكبت شركات الأدوية والمختبرات العلمية هذا الخطر، من خلال إدخال مضادات حيوية جديدة. لكن هذه الاستراتيجية التي بدت واعدة في بدايتها، أصبحت قاصرة عن اللحاق بسرعة تكون المقاومة؛ إذ انخفض عدد المضادات الحيوية الجديدة بصورة ملحوظة في السنوات الماضية.
تتبع البكتيريا المقولة الشهيرة "الضربة التي لا تقتلك تقويك"؛ ففي كل مرة نستخدم فيها مضادا حيويا بصورة غير صحيحة، يتسارع تطور مقاومة ضده. ويقف وراء الاستعمال الجائر لمضادات البكتيريا، قصر النظر، وتجاهل الآثار البعيدة لهذا السلوك؛ فالإنسان غالبا ما يتجاهل تبعات الأمور التي لا يختبرها آنيا. ومن هذه السلوكيات تناول المضادات الحيوية لعلاج أمراض لا تستوجب العلاج، وعدم إكمال جرعات العلاج حال تحسن الأعراض، وانتشار الاستطباب الذاتي، وبيع المضادات من دون وصفات طبية والتي تشكل حوالي 50 % من إجمالي المبيعات. وهناك أيضا استعمال هذه المضادات ضمن علاج الماشية، ناهيك عن الأدوية المزورة؛ إذ تشير الدراسات إلى أن 5 % من المضادات الحيوية المباعة في العالم مزورة، وحوالي ربع الأدوية المزورة مضادات حيوية.
هناك ضرورة ملحة للعمل على تعديل التشريعات الناظمة لاستخدام المضادات الحيوية، لضمان صرفها بموجب وصفة طبية؛ ووضع مبادئ توجيهية للعلاج الملائم والوصف المناسب للأدوية، مع إقامة برامج توعوية للأطباء والعاملين في القطاع الطبي وللعامة حول مخاطر الاستعمال غير العقلاني للمضادات الحيوية، والثمن الذي سندفعه جراء هذه الممارسات.