"مطعم هاشم وين صار"!

نادر رنتيسي عمان- زرتُ عمّان بعد غياب ثلاث سنوات، وهي المدة التي “تسارع” فيها العمل بإنجاز “الباص السريع”. أمضيتُ عشرة أيام في حفظ مداخل الأنفاق، وقراءة الإرشادات الزرقاء قبل بلوغ المخارج التي كنت أخشى أن تقذفني إلى “المفرق”. صعدتُ الجسور من دون أن أعرف إلى أين ستأخذني، ومشيتُ وراء “التحويلات” من دون أن أثق بمعرفتها بطريقي الأصلية. عشرة أيام كنتُ أحفظ فيها “عمّان الجديدة” التي كانت كلّ إشاراتها تطيل الاحمرار، كأنها تدقق النظر والشكّ في وجهي. علقتُ في أزمات عمّان المرورية، لكني لم أتبرّم، أقصد أني لم أكن أستعجل الوصول، خصوصاً أن سكّان العاصمة صاروا يضربون مواعيدهم “بين” وليس “عند”، أي بين الساعة السابعة والثامنة، لا عند السابعة أو الثامنة، فيتخفّف الزائر من حرج التأخير والمبالغة باللهاث. فيما ينشغل المستقبل بإضافة طبق مكسيكي إلى المائدة، ليس ضرورياً أن يكون سريع التحضير. كما لم يعد مبرّراً بدء الزيارة بالشكوى من أزمة المرور، ثمّ الترحيب الزائد، والأسئلة المعتادة عن الأحوال المعتادة. اذهب إلى الموضوع مباشرة.. إلى الطبق المكسيكي! ومثل كل زائر، فإن زيارة عمّان تكون منقوصة، بل و”غير شرعية” إن لم تتضمن النزول الحادّ إلى وسط البلد. كان لي موعد مع صديق قديم على طاولة في مطعم هاشم. عبرتُ بالسيارة المستأجرة أزمة ما بعد عصر يوم خميس، بما فيها من “حشر” وتداخل بين المسارب، بينما تكون الأولوية لصاحب الذراع الأطول، ولأنّ ذراعي قصيرة، وخجولة، فقد استهلكتُ كل الوقت الفائض بين ساعتين، حتى وصلت مجمّع الشابسوغ لأركن السيّارة المنهكة التي كانت مثل حصان تعّرض لضربة شمس. نزلتُ من الشابسوغ باتجاه سوق الذهب. صرتُ أتلو أسماء المحلات التي تجاهلتها طوال حياتي ولم أشتر منها خاتماً. تأكدتُ من وجود ركن الفستق السوداني لوريث أبي أحمد النيجيري. هناك محل جديد لبيع العصير الطازج باسم “فلسطين”. وهذا طابور طويل، سينتهي بالطبع عند شبّاك “حبيبة” لطالبي الكنافة النابلسية. توقّفتُ عند كشك الثقافة العربية، وضعتُ طلباً مستعجلاً بإحضار ثلاثة كتب عن سيرة صدّام حسين. ثمّ استدرت (نعم استدرت) لأذهب إلى مطعم هاشم، في فقدان مؤقت لذاكرتي التي من حديد. مشيتُ واثقاً، متجاوزاً أكتاف العابرين، باتجاه شارع الملك طلال. أصعد قليلاً نحو سوق البخارية، وأنزل قليلاً باتجاه “مكتبة الأمانة”، ثم أعود إلى المنتصف حيث المسجد الحسيني، من دون أن ألحظ مدخل مطعم هاشم. تأخرتُ كثيراً عن الموعد، وصديقي القديم، يواصل الاتصال كل دقيقتين. أخبره أني عالق في أزمة، وأخجل من القول أني لا أتذكر مكان المطعم. عشرون عاماً من المشي بأحذية مهترئة في وسط البلد، ثمّ أتوه في كفّها التي تشبه كفي. أعدتُ الصعود والنزول، ثلاث مرات، متأكداً أن مطعم هاشم في شارع الملك طلال، لكنّي مع إلحاح مكالمات صديقي، اضطررت للسؤال المُعيب الذي أجّلته ربع ساعة كاملا. رفعتُ الكمّامة لتغطي أكبر قدر من وجهي، وأنزلتُ النظارات السوداء (رغم الغياب التدريجي للشمس)، ثمّ توجّهتُ إلى شاب يبدو من مواليد عام ألفين (أي حين كانت قدماي قد تشققتا من المشي في وسط البلد) وسألته: “مطعم هاشم وين صار”.. كأنّي سائح عابر. ** بعد العشاء المبكر في مطعم هاشم، ذهبت إلى محل لبيع الإسطوانات الغنائية. نزعتُ الكمامة، وألقيت التحية. ردّ البائع: أعرف طلبك.. كاظم الساهر. قلت: كيف عرفت؟ “ولو أنتَ زبون قديم”. قال، وأعاد لي “عمّانيّتي”. سألني: أي أغنية؟ وبشبه البكاء أجبت: “عابر سبيل”.

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

اضافة اعلان