ألبوم كارول سماحة الذهبي.. أزمة فراغ

أحمد جميل عزم خلال العام 1995، دخلتُ محل تسجيلات "ستوديو الساحل"، قرب مجمّع رغدان في عمّان، وكان مشهوراً ببيعه إضافة إلى الأشرطة الغنائيّة والموسيقية المختلفة الذائعة، أنواعاً مُتخصصّة، بعضها موسيقا غربية كلاسيكية وحديثة، مثل موسيقا الإيطالي (1923 - 1999)، فاوستو بابتي Fausto Papetti، الذي اشتهر بربط آلة الساكسفون بـ "أغنيات الحب". أيضاً هذا "الاستديو" يبيع الأغنيات السياسية والوطنية، ما تتعلق بالثورة الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية، والثورية السياسية من مصرية وعراقية وغيرها. سألته "ألا توجد أشرطة وطنية جديدة"؟ (أي سياسية أو نضالية). ضحك، وقال "من أين ستأتي؟". لم أسأله ماذا تقصد، لكني فهمتُ، أنّه بعد اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وانهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الأيديولوجيا، ومأساة حرب الخليج 1990\ 1991، و"بشائر" انتصار الليبرالية الأبدي التي بشّر بها كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، انتهت الأغنيات "الراعفة" بالفكر والنضال. وقتها بدا أنّ الحديث في السياسة وحتى المجتمع بات صعباً. بدأت أزمة النصوص الشعرية وحتى الدرامية بالظهور، واتجهت الدراما السورية إلى "الفنتازيا التاريخية". وفي مصر لجأ مخرج من وزن يوسف شاهين، الذي أخرج أهم أفلام الواقع الاجتماعي والسياسي، للنصوص التاريخية، فأخرج فلم المصير، ولعل أغنية الفيلم، لمحمد منير "لسة الأغاني ممكنة"، تعبير وإسقاط على معضلة فقدان المعنى واستعصاء كتابة أغنيات ونصوص وطنية وسياسية حديثة جذّابة. لجأ فنانون من أصحاب الأغنية الوطنية والسياسية مثل سميح شقير، لإنتاج ألبوم بأغنيات اجتماعية ساخرة، وسخرية شقير لا تنفصل عن الفنتازيا التاريخية، وأعمال مثل ضيعة ضايعة وبقعة الضوء، التي لم يكن فيها زمان أو مكان حقيقيان، وكل هذا تعبير عن توهان. ذهب الرحابنة، أيضاً، للتاريخ، وهنا برزت الفنانة كارول سماحة، التي غنت معهم مسرحيات "آخر أيام سقراط" (1998)، وأبو الطيب المتنبي (2001) ملوك الطوائف (2003). نحو العام 2010، بدا أنّ هناك نهضة ما، عندما ظهرت أعمال جديدة، مثل ألبوم سميح شقير "قيثارتان"، وأغنية أحمد قعبور "شمس الأغاني"، وتأكدت الروح الجديدة بحدوث الربيع العربي وثوراته، وظهر في بداياتها أعمال مهمة مثل "يا حرية" لشقير، وموسيقا مالك جندلي "وطني أنا"، و"سمفونية القاشوش" التي جاءت من نبض الشارع السوري. لكن فشل "الربيع العربي"، أوقف الموجة الجديدة. الآن تثور ضجة حول عمل الفنانة اللبنانية، كارول سماحة، المسمى "الألبوم الذهبي"، الذي يضم 12 قصيدة لمحمود درويش. سماحة لخصت الأزمة وهي تقول "عشنا كتير أحداث ومشاعر صعبة بآخر كم سنة تركت جوّاتنا كلنا فراغ كبير حسيت إن الفن إذا ما عبَّر عن قلقنا وهواجسنا ناقص، ومن هون كانت فكرة ‫الألبوم الذهبي". فهي ترى أنّ الوضع الصعب (سنة 2023) يحتاج لكلمات تعبر عنه، وكان الملاذ محمود درويش المتوفى عام 2008. هذا انعكاس آخر لاستعصاء إيجاد الجديد للتعبير عن الحالة الراهنة. ‬ عندما توفي درويش قدّم سميح شقير، ألبومه "قيثارتان" عام 2009، ضم 10 أغنيات من كلمات درويش، لكنه أعد خصيصاً لتكريم الشاعر وكتب له شقير "لروحك التي تصطفق الآن على مقربة من أعالي القلوب". تثور الضجّة الآن أن واحدة من كلمات أغنيات ألبوم سماحة (ستنتهي الحرب) ليست لدرويش، وإن نسبت له على وسائل التواصل الاجتماعي. أضف لذلك يمكن الإشارة أنّ أكثر من أغنية في الألبوم مغناة سابقاً، فسميح شقير غنى على الأقل أغنيات (فكّر بغيرك، "أيها المارون" (التي غنّتها أصالة نصري أيضا)، وبيروت)، أمّا أغنية إلهي أعدني إلى وطني، فغناها الفنان الكويتي خالد الشيخ (هناك مصادر تنسبها لشاعر آخر)، أمّا أغنية "ونحن نحب الحياة" فقدّمها مارسيل خليفة. فكرة سماحة ومشروعها نبيلان، ومفهومان، بل يبدو أنها أيضاً حاولت القيام بالأمر بطريقة حرفيّة بمخاطبة المعنيين بحقوق الملكية لكلمات درويش. ولكن موضوع نسبة الكلمات للشاعر، وتكرار الغناء، فهو أمر يعكس حال المجال الثقافي العربي، المرتبك، المتعجّل، واستعصاء التجديد. أن تغني سماحة كلمات غناها بنجاح آخرون قبلها، إما أنه يعكس استعجالا وخطأ، أو مغامرة جريئة لدرجة توقع تقبل الجمهور ذات الكلمات التي سبق وأحبها بأصوات وألحان أخرى. الموضوع أكبر من مجرد نسبة الكلمات لشاعرها، فهي تعكس حال الفن وبالتالي الثقافة العربية السائدة حالياً، واستعصاء التجديد. المقال السابق للكاتب “عسكرة المقاومة” والقيادة الفلسطينيةاضافة اعلان