المنطق المزيف لـ"الحق التاريخي" اليهودي في إسرائيل‏

‏كنيس يهودي في سارسيل، خارج باريس – (المصدر) ‏
‏كنيس يهودي في سارسيل، خارج باريس – (المصدر) ‏

‏شلومو ساند* – (هآرتس) 12/11/2018


‏تصرّ ثقافتنا السياسية على رؤية اليهود أنهم أحفاد مباشرون للعبرانيين القدماء. لكن اليهود لم يكونوا أبدا "شعبًا"- ناهيك عن أن يكونوا أمّة.‏
*   *   *
عادة ما أستمتع بأفكار حاييم غانس Chaim Gans، حتى لو أنني لم أفهمها دائماً. وأنا أكنّ أعلى تقدير لنزاهته الفكرية -حتى لو حاول في بعض الأحيان، ربما مثل الجميع، أن يحل التناقضات بحجج واهية. ‏

اضافة اعلان


مع ذلك، قبل الخوض في جوهر الموضوع، يجب أن أتوقف عند خطأ مزعج- أنا متأكد من أنه في عمقه ليس مضللاً عمدًا وإنما حماقة- يتعلق بكتاباتي. في مقاله المعنون "‏‏من الصهيونية المسعورة إلى الصهيونية المساواتية‏‏" (9 تشرين الثاني/ نوفمبر)، كتب غانس: "لأنه، وفقًا لـ[ساند]، يُزعَم أنها لا توجد استمرارية وراثية بين اليهود القدامى واليهود المعاصرين، ويترتب على ذلك أن الأمة اليهودية التي أنشأتها ‏‏الصهيونية‏‏ هي تلفيق كامل، أمة خُلقت من العدم". ‏


‏إذا كان افتراضي أن غانس قد اطلع على كتبي صحيحًا، فيبدو أنه قرأها بسرعة كبيرة وبشكل قطري. منذ نشر كتابي الأول "‏‏اختراع الشعب اليهودي‏‏" The invention of the Jewish people قبل عقد من الزمان، حرصت على التأكيد على أن اليهود ليسوا وحدهم الذين لا يمتلكون حمضًا نوويًا مشتركًا– فكذلك تفعل جميع المجموعات البشرية الأخرى التي تدعي أنها شعوب أو أمم- وهو ما لم أعتقد- بالإضافة إليه- في أي وقت أن علم الوراثة يمكن أن يمنح حقوقًا قومية.

 

على سبيل المثال، الفرنسيون ليسوا أحفادًا مباشرين للغال، تمامًا كما أن الألمان ليسوا من نسل الجرمان أو الآريين القدماء -حتى لو أن العديد من الحمقى ظلوا يعتقدون ذلك إلى ما قبل أكثر من نصف قرن بقليل. ‏


إحدى السمات المشتركة بين جميع الشعوب هي أنها اختراعات بأثر رجعي من دون "سمات" وراثية مميزة.

 

والمشكلة الحادة التي تزعجني حقًا هي أنني أعيش في ثقافة سياسية وتربوية تعليمية فريدة تستمر بإصرار في رؤية اليهود على أنهم أحفاد مباشرون للعبرانيين القدماء. ‏


في هذا المجتمع، تعمل الأسطورة المؤسِّسة للصهيونية– التي تمضي في خط غير منقطع من ماكس نورداو وآرثر روبين، إلى علماء الوراثة المقلقين في العديد من الجامعات الإسرائيلية وفي "جامعة يشيفا" في نيويورك– باعتبارها الغراء الأيديولوجي الرئيسي للوحدة الأبدية للأمة، وتفعل ذلك اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن مبرر الاستيطان/ الاستعمار الصهيوني (اختر المصطلح المفضل لديك- فهما يعنيان نفس الشيء) هو النموذج الجامع الذي يتم التعبير عنه في إعلان قيام الدولة: "كنا هنا، اقتُلِعنا، عدنا". ‏


إفصاح كامل: حتى عندما كنتُ أعتقد، مخطئًا، أن الرومان نفوا "الشعب اليهودي"  في العام 70 بعد الميلاد أو 132 بعد الميلاد، لم أكن أعتقد أن هذا يمنح اليهود نوعًا من "الحق التاريخي" المتخيل في الأرض المقدسة. إننا إذا سعينا إلى تنظيم العالم كما كان قبل 2000 عام، فسوف نحوله إلى بيت جنون كبير.

 

لماذا لا نعيدُ الأميركيين الأصليين إلى مانهاتن، على سبيل المثال، أو نعيد العرب إلى إسبانيا والصرب إلى كوسوفو؟ بطبيعة الحال، سوف يُلزمنا هذا المنطق الملتوي لـ"الحق التاريخي" أيضًا بدعم استمرار الاستيطان/ الاستعمار في الخليل وأريحا وبيت لحم. ‏


بينما كنت أتابع بحثي، تركني إدراكي لحقيقة أن "الخروج" من مصر لم يحدث أبدًا وأن الرومان لم ينفوا سكان مملكة يهوذا، في حيرة. لا توجد دراسة واحدة لمؤرخ متخصص في العصور القديمة تروي قصة ذلك "المنفى"، أو أي دراسة تاريخية جادة تعيد بناء قصة هجرة جماعية من المكان. إن "المنفى" هو حدث تكويني لم يحدث أبدًا، وإلا لكان موضوعًا للعشرات من الدراسات البحثية.

 

لم يكن مزارعو يهوذا، الذين شكلوا الأغلبية المطلقة من السكان في القرن الأول الميلادي، بحَّارة مثل الإغريق أو الفينيقيين، ولم ينتشروا في كل أنحاء العالم.

 

كانت عقيدة التوحيد اليهودي، التي أصبحت منذ عصر السلالة الحشمونية* دينًا ديناميًا منخرطًا في الدعوة، هي التي وضعت الأسس لوجود اليهود القديم في مختلف أنحاء العالم. ‏


وهنا نصل إلى قلب حجج غانس. لا يبدو هذا الفقيه والمنظر السياسي البارز مستعدًا لقبول المبررات القياسية للاستيطان ولمفهوم الصهيونية لملكية الأراضي منذ نهاية القرن التاسع عشر.

 

وهو يدرك جيدًا أن مثل هذه الافتراضات الشائعة والشعبية ستجبره على تبرير استمرار المشروع الاستيطاني الحالي، وربما أيضًا إنكار حقوق السكان الأصليين الذين ما يزالون باقين في "أرض إسرائيل". ‏


‏‏بل إن غانس يعرف أنها لم تكن هناك في الواقع أمة يهودية، وهو السبب في أنه يلجأ إلى الصورة الحرفية لـ"ملف شخصي" -وهو مصطلح مدهش وأصلي في السياق القومي- قائم بالكامل على الجهل. حتى يفهم ما قصده كليرمون تونير في خطابه الشهير (وهو موضوع كنت قد تناولته في مقال في طبعة "هآرتس" العبرية في آب/ أغسطس الماضي)، كان الاطلاع على "ويكيبيديا" سيكفي. وكان ليعرف على الفور أن الليبرالي الفرنسي كان يشير بكلمة "أمّة" إلى مجتمع ديني مغلق ومعزول. ألم ير اليهود أنفسهم، بالمقارنة، كشعب أو أمة وفقًا للاستخدام الحديث لهذه المصطلحات؟ ‏


‏حتى العصر الحديث، تم استخدام مصطلحات "الشعب" أو "الأمة" للتعبير عن مجموعة متنوعة من المعاني. في الكتاب المقدس، ينزل موسى إلى الشعب ويتحدث معهم مباشرة (من دون مكبر صوت أو صحف أو تلفزيون أو "تويتر").

 

ويجتمع الشعب أيضًا للترحيب بيشوع وتهنئته على انتصاراته. وفي العصور الوسطى، اعتبر المسيحيون أنفسهم "شعب الله"، وهو مصطلح ظل يستخدم على نطاق واسع لمئات السنين. وفي عصرنا، يتم تطبيق مصطلحات "الشعب" أو "الأمة" بطريقة مختلفة، وإن لم يكن دائمًا بدقة. "الشعب" هو، بشكل عام، مجتمع بشري يعيش داخل إقليم محدد، يتحدث أعضاؤه لغة مشتركة ويحافظون على ثقافة دنيوية لها نفس الأسس- أو أسس متماثلة. و"الأمة"، من ناحية أخرى، هي مصطلح يطبق اليوم بشكل عام على شعب يدَّعي السيادة على نفسه- أو أنه حققها بالفعل.


‏لا أعتقد أن الشعوب كانت موجودة قبل العصر الحديث- أمكن استبعاد هذا الاحتمال من خلال تقدير مستوى التواصل الذي كان لديهم. كانت هناك عشائر كبيرة، وقبائل، وممالك قوية، وإمارات كبيرة، ومجتمعات دينية ومجموعات أخرى ذات أشكال مختلفة من الروابط السياسية والاجتماعية- عادة ما تكون فضفاضة.

 

وفي عصر كان فيه عدد قليل فقط من الناس يستطيعون القراءة والكتابة، وعندما كانت لكل قرية لهجة مختلفة وكان المعجم هزيلاً بشكل مروع، من الصعب التحدث عن شعب لديه وعي مشترك.

 

والأقليات المتعلمة المثقفة لم تكن لتشكل أممًا بعد، حتى وإن كانت قد خلقت هذا الانطباع في بعض الأحيان. ‏

 

لا أفهم لماذا يجب تسمية جميع القطط قططًا وكل الكلاب كلابًا– وأن قطة واحدة فقط يجب أن تُسمى كلبًا. كان لدى اليهود، مثل المسيحيين أو المسلمين أو البهائيين، إيمان قوي بالله إلى جانب الممارسات الدينية المتنوعة والمترابطة بشكل وثيق.

 

ومع ذلك، لم يستطع يهودي من كييف التحدث مع يهودي من مراكش، ولم يكن يغني أغاني اليهودي اليمني، ولم يأكل نفس الأطعمة مثل "الفلاشا مورا"، أو "بيتا إسرائيل"، مجتمع إثيوبيا. كان النسيج الكامل للحياة الدنيوية اليومية مختلفًا تمامًا في كل مجتمع.

 

وبناء على ذلك، فإن الطريقة الوحيدة للانضمام إلى "الشعب اليهودي" حتى يومنا هذا– بشكل مُحِق– تكون من خلال التحول الديني. ‏


‏على النقيض من ذلك، كان المسيحيون ينظرون إلى اليهود على أنهم أعضاء في عقيدة بغيضة تعبد المال. وكان المسلمون ينظرون إليهم على أنهم أتباع دين أدنى. ومع ظهور التقدم في العصر الحديث، بدأ العديد من الأوروبيين في معاملتهم على أنهم عرق مدنس. وسعت معاداة السامية بقوة إلى تصوير اليهود على أنهم جنس غريب بدم مختلف (لم يكن قد تم اكتشاف الحمض النووي بعد). ‏


‏ولكن ماذا بحق الشيطان كان "ملفهم الشخصي" الذاتي؟ يخبرنا حاييم غانس، الذي هو نفسه نتاج بارز لنظام التعليم الصهيوني، أنهم رأوا أنفسهم كنوع من أمة حلمت بالوصول إلى "أرض إسرائيل". لن أقترح أن يقرأ غانس مؤلفين يهودًا مميزين مثل هيمان كوهين أو فرانز روزنزويغ، أو التلمود، الذين رفضوا الهجرة الجماعية إلى الأرض المقدسة. أنا متأكد من أنه لن يكون لديه الوقت ليفعل ذلك. أود فقط أن أطلب منه قراءة تاريخ موجز أكثر موثوقية بعض الشيء. ‏


حتى الحرب العالمية الثانية، كانت الغالبية العظمى من اليهود الشرقيين والغربيين– التقليديين، والأرثوذكس والمحافظين، والإصلاحيين، والشيوعيين والبونديين**- مناهضين للصهيونية.

 

لم يرغبوا في السيادة على أنفسهم في إطار دولة قومية في الشرق الأوسط. في الواقع، رأى البونديون أنفسهم- محقين تمامًا- كشعب يديشي في حاجة إلى الاستقلال الثقافي واللغوي، لكنهم رفضوا رفضًا قاطعًا اقتراح الهجرة إلى فلسطين كجزء من مشروع خلق أمة يهودية عابرة للعالم. ‏


وهنا نصل إلى آخر محاولة يائسة لتبرير المشروع الصهيوني بأثر رجعي: الصهيونية كرد فعل على حالة طوارئ. لكن التاريخ، للأسف، كان أكثر مأساوية. لقد فشلت الصهيونية فشلاً ذريعًا في إنقاذ يهود أوروبا، ولم يكن بإمكانها أن تفعل. من العام 1882 حتى العام 1924، تدفق اليهود بحشودهم- حوالي 2.5 مليون- إلى قارة الوعد؛ أميركا الشمالية.

 

ونعم، لولا "قانون جونسون ريد"*** العنصري للهجرة الذي منع استمرار الهجرة إلى أميركا الشمالية، لربما كان ليتم إنقاذ مليون- أو ربما مليونين- آخرين من تلك الأرواح. ‏


‏إفصاح كامل إضافي: ولدتُ بعد الحرب في مخيم للنازحين في النمسا. وخلال العامين الأولين عشت مع والدَيَّ في مخيم آخر في بافاريا. أراد والداي، اللذان فقدا والديهما في الإبادة الجماعية النازية، التسلل إلى فرنسا- أو، بدلاً من ذلك، الهجرة إلى الولايات المتحدة.

 

ومع ذلك، تم إغلاق جميع البوابات في وجهيهما، وأُجبرا على الذهاب إلى دولة إسرائيل الفتية، المكان الوحيد الذي وافق على قبولهما. والحقيقة هي أنه كان من الملائم لأوروبا، بعد مشاركتها في المذبحة الجماعية لليهود، إخراج بقايا سكان أصليين لم يشاركوا في القتل المروع، لتخلق بذلك مأساة جديدة، وإن كانت على نطاق مختلف تمامًا. ‏


حاييم غانس غير مرتاح لهذه الرواية التاريخية، خاصة عندما يستمر اضطهاد السكان الأصليين (الفلسطينيين) ونهب أراضيهم حتى الآن. إن الصهيونية، التي نجحت في تشكيل أمة جديدة، ليست مستعدة للاعتراف باختراعها السياسي- الثقافي- اللغوي، ولا حتى بالحقوق الوطنية المحددة التي منحتها لها تلك العملية. لكن غانس، في النهاية، على حق. من مئير كهانا إلى ميرتس، يستمر جميع الصهاينة في النظر إلى الدولة التي نعيش فيها، لا كجمهورية ديمقراطية لجميع مواطنيها الإسرائيليين- الذين لديهم بالتأكيد الحق في تقرير المصير- وإنما ككيان سياسي ينتمي إلى يهود العالم، الذين مثل أسلافهم ليست لديهم رغبة في المجيء إلى هنا أو تعريف أنفسهم كإسرائيليين. ‏


ما تبقى لي إذن هو أن أستمر في أن أكون صهيونيًا أو ما بعد صهيوني، بينما أفعل ما في وسعي للمساعدة في إنقاذ المكان الذي أعيش فيه من عنصرية تزداد كثافة، في ما يرجع، من بين أسباب أخرى، إلى تدريس ماض تاريخي مزيف، والخوف من الاندماج مع الآخر، والاشمئزاز من الثقافة الأصلية وما إلى ذلك.

 

لأنه، كما كتب الشاعر التركي ناظم حكمت، "إذا لم أحترِق/ إذا لم تحترق/ ... إذا لم نحترق/ كيف يمكن للضوء/ ... أن يبدد الظلام"؟ ‏

 

*شلومو ساند Shlomo Sand: مؤرخ وأستاذ فخري في جامعة تل أبيب.‏

*كانت سلالة الحشمونيين (الحشمونائيم) سلالة حاكمة في يهودا والمناطق المحيطة بها خلال العصور الهلنستية من فترة الهيكل الثاني، من ج. 140 قبل الميلاد إلى 37 قبل الميلاد.‏‏ ‏‏ويكيبيديا‏


** البوندية Bundism:‏‏ هي حركة ‏‏اشتراكية يهودية‏‏ علمانية كان أول مظهر تنظيمي لها هو ‏‏"البوند العمالي اليهودي العام‏‏ في ليتوانيا وبيلاروسيا وبولندا وروسيا". تأسست في ‏‏الإمبراطورية الروسية‏‏ في العام 1897.‏


*** قانون الهجرة للعام 1924 أو "قانون جونسون ريد" كان قانونًا اتحاديًا للولايات المتحدة يقيد العدد السنوي للمهاجرين الذين يمكن قبولهم من أي بلد إلى 2 في المائة من عدد سكان هذا البلد الذين يعيشون في الولايات المتحدة اعتبارًا من تعداد 1890. بانخفاض عن القانون الذي حدد في العام 1921 والذي حدد عدد المهاجرين بـ 3 في المائة واعتمد على تعداد 1910.

 

يهدف القانون في المقام الأول إلى زيادة تقييد الهجرة من جنوب أوروبا وأوروبا الشرقية، وخاصةً الإيطاليين ويهود شرق أوروبا.

 

بالإضافة إلى أنه يقيد بشدة هجرة الأفارقة ويحظر صراحة هجرة العرب والآسيويين. ووفقًا لمكتب وزارة الخارجية الأميركية للمؤرخ فإن الغرض من هذا الفعل هو "الحفاظ على المثالية للتجانس الأميركي".

 

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Twisted Logic of the Jewish ‘Historic Right’ to

Israel

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

 

حين كان اليهود عربا: عوالم آفي شلايم الثلاثة