إبراهيم غرايبة يكتب: الديكاميرون، الأدب الطلياني للطاعون

ظهر كتاب الديكاميرون لمؤلفه الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313 -1375) بعد الطاعون الذي اجتاح حوض البحر المتوسط، ومات بسببه ثلث الناس، والكتاب عبارة عن مائة قصة جمعها المؤلف على هيئة قصة لمجموعة من الأشخاص يعتزلون في الريف هربا من مرض الطاعون، وفي أثناء عزلتهم كانوا يروون الحكايات،اضافة اعلان
ومن المعلوم أن القرن الرابع عشر شهد بداية ظهور البورجوازية الأوروبية التي قادت التقدم الأوروبي من سكان المدن والموظفين والمهنيين والتجار، وأنشأت ثقافة جديدة قائمة على القصة والرواية ومخاطبة الجمهور الواسع بدلا من الفنون الراقية وأعمال النحت التي كان يقتصر تذوقها واقتناؤها على النبلاء، ومن أهم الأدباء الذين ظهروا في هذا القرن: دانتي إليجيري مؤلف الكوميديا الإلهية، وفرانشيسكو بتراركا.
ويلاحظ لدى قراءة قصص الديكاميرون أن أحداثها تدور حول المجتمع بكل طبقاته من النبلاء والتجار والرهبان والحرفيين والمهنيين والفقراء والأغنياء، كما أنها تتجه إلى التسلية والإمتاع، ولم تعد متعلقة بالسمو والخلاص الروحي كما في آداب وفنون النبلاء السابقة لعصر النهضة، كما شهدت الأعمال القصصية بداية النقد والتمرد على الكنيسة والنبلاء.
تعني الديكاميرون «الأيام العشرة» وهي عبارة عن سرد لمائة قصة تحكى على مدى عشرة أيام في كل يوم عشر قصص، حيث يلتقي في أزمة الطاعون الذي حل بأوروبا في منتصف القرن الرابع عشر وفتك بربع سكانها عشرة شباب (سبع فتيات وثلاثة شبان) ويقررون الخروج من مدينة فلورنسا الإيطالية للإقامة في الريف، وعلى مدى الأيام العشرة التي يقضونها في قصر ريفي جميل يجتمعون كل يوم في المساء، ويسرد كل واحد قصة، فتجمعت مائة قصة تعبر عن التراث الإيطالي والإنساني، الكرنفال المترف بالحب والمتعة والجمال والبهجة والغواية والإمتاع والعشق والمجون والمكر والخديعة والإغراء والسخرية والمؤانسة والتهكم والشعوذة والحرية والاعتراف والتصابي والتنكر.
يبدأ الكتاب بوصف تفصيلي ودقيق لوباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا في العام 1348، فقد تحولت أوروبا إلى مسرح يجتاحه وباء رهيب قضى على ربع سكانها، ويصف بوكاشيو أعراض الداء والحالة العامة من التعاسة والشقاء التي عاشها الناس، ثم ينتقل إلى تأمل روحاني «كم من الرجال الشجعان البارزين تناولوا الفطور في الصباح مع أسرهم وأصدقائهم ليتعشوا في الليلة التالية مع أجدادهم وأسلافهم في العالم الآخر».
ثم يعرض ما حدث للشباب والصبايا الذين هربوا من التعاسة والشقاء، وقرروا أن يُنصبوا في كل ليلة أحدهم ملكا، ويستمعوا إلى القصص والحكايات، فينتقل بوكاشيو من عالم الرعب والموت والأهوال إلى عالم النمائم البورجوازية، وهذا هو السر الحقيقي برأي المترجم صالح علماني في فن بوكاشيو القصصي «التصوير الواقعي للحياة اليومية» فقد تبدل كل شيء مع توالي القصص، وابتعدنا أكثر فأكثر عن الوباء، ونسينا مع الرواة اللحظة المأساوية التي جعلهم المؤلف يعيشونها قبل خروجهم إلى القصر الريفي البديع، الهروب من الألم والاستمتاع قبل مجيء الموت، فبوكاشيو يروي من أجل تجاهل الموت، من أجل التسلية والإضحاك دون أي هموم أخلاقية دون خبث، ويعتبرها علماني الانطلاقة الحقيقية للقصة الفنية الواقعية.
كانت موضوعات القصص في اليوم الأول حرة دون موضوع محدد، وينسج الرواة قصصا قاسية حول الكهنة تبين كيف كانت حياة البورجوازيين وعاداتهم في القرن الرابع عشر ومفهومهم للدين والتدين، وفي اليوم الثاني تختار الملكة موضوعا للقصص عن أحداث وصروف قاسية ثم تنتهي بنهاية سعيدة، وفي اليوم الثالث تكون الحكايات في أغلبها عن المجون والإغراء يشارك فيها رهبان وراهبات وعمال وحرفيون، وفي اليوم الرابع تكون القصص عن غراميات انتهت نهاية مأساوية، وهي هنا أكثر بساطة وأشد تقشفا، وفي اليوم الخامس يقصون مغامرات عن الحب والعشق تنتهي نهايات سعيدة، وفي اليوم السادس تعرض قصص خفيفة عن سرعة البديهة والذكاء والحيل، وفي اليوم السابع تعرض قصص عن حيل النساء ومكرهن ويغلب عليها الخيانة الزوجية وتغطيتها بالحيل، وفي اليوم الثامن تكون القصص عن المغفلين الذين يتعرضون للخديعة وتنطلي عليهم، وفي اليوم التاسع تروى قصص عن الحيل للحصول على المتع والوصول إلى الغايات، وتعود القصص في اليوم العاشر إلى التهذيب والعاطفة القوية الجميلة والفروسية.