العتيق..

د.لانا مامكغ كان منهمكاً بتنظيف القفل الصدئ لبوابة المؤسسة، حين مرت بجانبه ودخلت المبنى.. شابة في الثلاثينيات، باذخة الأناقة، مترفعة في مشيتها، تنم هيئتها عن منسوب عال من الاعتداد بالذات.. مرت لحظات ليشعر بحركة غير اعتيادية من موظفين في المكاتب، فعرف أن ترقبهم قد انتهى بتوليها الإدارة! ولم يعن الأمر كثيرا، فقد عاصر عددا غير قليل من المديرين، لكنها المرة الأولى التي تتولى فيها المنصب امرأة شابة، فقرر التفاؤل، ليتساءل، وماذا في ذلك؟ هو أب لشابة أكبر منها، ويدرك تماما قدرتها على حمل أعباء عديدة في وقت واحد، لذلك، سيكون مع المديرة الوافدة، وسيساندها في مهمهتا مهما كلف الأمر! إذن، قال لنفسه، المؤسسة التي بدأت صغيرة، ثم كبرت وامتدت، على موعد مع مرحلة جديدة، خاصة مع تراجع وارداتها مؤخرا، الأمر الذي بات يقلقه للغاية، فقد كان من أوائل موظفيها، إذ بدأ محاسبا، ثم مديرا للديوان، وبعدها مسؤول لوازم .. كان مسماه الوظيفي يعلو ويهبط تبعا لمزاج المديرين الذين تعاقبوا في المنصب، فمنهم من رضي عنه، ومنهم من ظلمه دون أن يعرف السبب، ومنهم من لم يلاحظ وجوده أصلا ! ولم يحدث أن أبدى اعتراضا في أي مرة، واكتفى ببذل أقصى جهوده في المواقع كلها على السواء، كان ارتباطه بالمكان يتجاوز تلك الشكليات، حسب رأيه، فقد كان يعرف تاريخ كل حجر جديد أضيف للمبنى، ويذكر كيف أشرف بنفسه على تشطيبات الطابقين الأخيرين تطوعا منه كي يضمن حسن التنفيذ، وكيف وزع الأثاث الجديد بنفسه على المكاتب، وكيف كان ينسب بتنظيفه وصيانته باستمرار، حتى ظل جديدا أنيقا رغم مرور سنوات عليه، فوفر على المؤسسة، كعادته، الكثير من النفقات غير الضرورية .. كما لم يتردد في حوسبة ملفات الديوان بعد أن أتقن استخدام الكمبيوتر، فتخلص من ركام الورق القديم، ومن أكوام الغبار عليها، هكذا كانت تجري الأمور؛ يتبنى الفكرة، ويسعى لأخذ الموافقة الرسمية عليها، وينفذها بحماسة دون تأخير. بعد أيام، دعي إلى اجتماع عام، فراعه أنها استخدمت اللغة الإنجليزية معظم الوقت، كان يفهم ما تقول، لكن ظل مستغربا من موقفها، بعدها بيومين، لاحظ أن المراسلات الداخلية أصبحت باللغة الإنجليزية أيضا .. فأقنع نفسه أنها لغة الإدارة الحديثة، فلا بأس، وليس عليه سوى تقوية لغته هو وتطويرها. بعد شهر أو أقل، وصل المكان مبكرا ليرى إحدى الآليات تجرف الحديقة الأمامية المزهرة التي زرعها بنفسه ذات زمن، وتسحق البوابة الجميلة التي كان حريصا على صيانتها وطلائها بيديه.. حاول الاعتراض فأسكته أحد زملائه ليخبره أن عطوفتها تسعى لتغليف المبنى بحائط زجاجي كي تضفي عليه لمسة من الحداثة .. ولم يتمكن من التعليق أو الكلام، إذ انتابه فجأة شعور من يدفن حياً .. فدخل بعينين زائغتين ليلقي بجسده على أقرب مقعد وهو يلهث بحثا عن نسمة هواء! اقتربَ منه زميل آخر ليهمس: « يقولون إنها ستنقلك للعمل في المستودعات أسفل المبنى .. لأنَ مظهرَك لا يتناسب مع « image « المؤسسة! « ليضيف بنبرة إشفاق: « يا سيدي، كثر الله خيرَها، المهم أنها لم تقطع رزقك! « مر وقت لا يعلم طوله، ثم قام بتثاقل ليتناول قلما وورقة، ويكتب استقالته .. ويغادر المكان دون أن يلتفت إلى الوراء! المقال السابق للكاتبة  للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان