الفقر في رؤوسنا

حرص ملكي على إحداث فرق حقيقي في واقع التنمية في عجلون، حتى أصبحت زيارات المتابعة الملكية لهذه المحافظة شبه سنوية، ثمة إنجازات تتحقق، ولكنها حتما لا تصل إلى طموح الملك وتطلعاته، فهناك فجوة واضحة بين إدراك الملك لامكانيات المحافظات التنموية وبين الإنجازات التي تحققها الجهات التنفيذية وسط ضعف نظم المتابعة والتقييم للأداء العام، واستمرار الثقافة الريعية، فالتحول إلى مجتمعات منتجة يحتاج إلى تحول سياسي ثقافي وإداري ايضا قبل أن يكون قرارا اقتصاديا. اضافة اعلان
السياسات التنموية اليوم بحاجة إلى مراجعة استراتيجية حقيقية وتحتاج إلى فكر جديد ودماء وطنية جديدة، تنتقل من الفكر اليومي إلى إحداث تحولات عميقة ولو تطلب هذا بعض المعاناة والآلام، لان ذلك يعني ببساطة الانحياز إلى مستقبل الأردن وضمانه، بدلاً من لعنة الأجيال القادمة، فالمسألة تتجاوز السؤال الذي بات تقليدياً ويتكرر باستمرار، لماذا لا يشعر المواطن بعوائد التنمية التي لا تنعكس على معاشه وظروفه اليومية، بل إن بعض التحديات التنموية الراكدة هي في حقيقة الأمر تحديات مصيرية لم توفق الدولة ولا حكوماتها المتتالية في تطوير منظور وطني وخيارات استراتيجية حولها. ولم نحصد في هذا الجانب سوى الصدمات الاقتصادية الداخلية والخارجية، والتي اعتدنا على مداراتها أو تأجيلها باجتهادات شخصية لرؤساء وزراء أو وزراء نافذين في ظل غياب منظور وطني تنموي ينبع من الحاجات الحقيقية، حيث جربت تلك الاجتهادات وصفات واطرا نظرية واستشارات تأتي عبر البريد الإلكتروني تأتي من كل الدنيا لا علاقة لها بواقع الناس أو بحاجات البلاد الحقيقية.
لو نظرنا الى المجتمعات الاشد فقرا في الأردن حسب الدراسات والارقام الرسمية وبعيدا عن التقسيم على أساس المحافظات الذي طالما ظلم هذه المجتمعات تنمويا؛ لنأخذ ثلاثا من هذه الكتل الاجتماعية؛ الأولى: الكتلة الاجتماعية الممتدة من الطفيلة إلى معان مرورا بمجتمعات بدو الجنوب بما فيها رم حيث واحدة من أكثر مؤشرات نوعية الحياة هشاشة وانتشارا للبطالة والفقر في مقابل وفرة في الموارد الاستخراجية والسياحية والزراعية التي تحتاج إلى اعادة تأهيلها ووضعها على الطاولة. هذا الاقليم يحتاج إلى تخطيط تنموي واحد، كما هو الحال في الكتلة الاجتماعية الثانية المكونة لاقليم محافظتي جرش وعجلون المؤهل أن يعطي الأردن الفرصة لإعادة اكتشاف التنمية الريفية الشاملة، القائمة على الاقتصاد الإنتاجي الفلاحي الذي ينتجه الناس من خلال بيئاتهم المحلية، بما توفره من موارد، وبما يتوفر لديهم من معرفة تقليدية قابلة للانفتاح على المعرفة المعاصرة والتكنولوجيا البسيطة والتصنيع الصغير، كل ذلك يمكن ان يكون ايضا أحد أبرز مدخلات أنماط جديدة من السياحة أي سياحة الأسرة التي تستهدف الأسرة الأردنية والعربية، تصوروا أن يكون هذا الإقليم رئة عمان المتكدسة بالسكان، تصوروا عددا من المنتجعات التي توفر خدمات سياحية جيدة وبأسعار معقولة وعشرات الممرات البيئية والثقافية والترفيهية التي تتيح للعائلات قضاء عطلات أو حتى نهاية الأسبوع بدون ممل وبسهولة، تصوروا حجم التغيير الذي ينقل نصف مليون أردني كل نهاية أسبوع إلى عجلون وجرش.
لنأخذ الكتلة الثالثة والمنتشرة على طول وادي الأردن وهي من أكثر المجتمعات إهمالا وسط بيئة تتمتع بمميزات طبيعية نادرة منها الأغوار والبحر الميت الذي كان من الممكن ان يكون هبة الطبيعة للأردن، لو تم النظر إلى مفهوم تنموي تكاملي يربط الصناعات الناعمة والسياحة وتراث الطبيعة في منتج متكامل يخطط له بمعرفة وإطلاع على ما يجري في العالم من خلال تطوير سياحة تراث الطبيعة وربطها بالصحة العلاجية بمنظور أكثر سعة ومعرفة، كما هو الحال في ان يكون قاعدة لصناعة نوعية متقدمة صديقة للبيئة تتدنى فيها نسبة التنافسية الإقليمية مثل عشرات الأنواع من المستحضرات التجميلية والصحية التي تحتاج الى بيوت خبرة عالمية وبناء وترويج هوية عالمية لها.
التنمية الوطنية الأردنية بحاجة إلى فكر جديد يعيد تأهيل الخيارات الوطنية ويكون بحجم التحديات المصيرية، وإدارة الندرة الحكيمة فبلادنا ليست فقيرة بل الفقر في رؤوسنا.