ثورية "تشات جي بي تي".. تجربة شخصية

د. أحمد جميل عزم- قرأت الكثير، وسمعت أكثر، عن التطبيق الجديد على الإنترنت «تشات جيب بي»(Chat GPT)، وأنّه قد يغيّر التاريخ والتدريس والتأليف وحتى كتابة الشعر. افترضت أنّ هناك تهويلا لأنّ هذا التطبيق يمكنه في أقصى حالاته تقديم نوع من مراجعة المصادر، وتلخيصها، أو ما يعرف بالبحث الأكاديمي، باسم «الدراسات السابقة» أو «مراجعة الأدبيات». قمت بتجربة عملّية وأنا خائف أن يكون التطبيق أكثر قدرة من هذه العمليّات ليقدّم أفكارا إبداعية. لكن اتضح لي أنّ هذا التطبيق أقرب إلى «الطالب المُفلِس»، أو «أنصاف المثقفين» الذين لا يدققون في مصادرهم أو معلوماتهم، ويرددون الحديث على عواهنه، ولا يقوم حتى بمهمات أساسية يتوقع من الطالب المتوسط القيام بها. ينتمي هذا البرنامج لما يعرف بالذكاء الصناعي، وأطلق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، ويقوم على فكرة إمكانية سؤاله سؤالا، فيجيبك مباشرة بإجابة خاصة بسؤالك تقوم على جمع المعلومات من مصادر عديدة وكثيرة، بعبارات صحيحة، ويمكن أن يقدم لك أكثر من إجابة إذا أردت. أجريت تجربتين على التطبيق، باللغتين الإنجليزية والعربية، وفي كل تجربة كررت وغيرت وبدلت الأسئلة مرات. في أول تجربة سألته عن تغير أسعار البترول في الثمانينيات، مرة ربط هذا بالحرب العراقية الإيرانية، ومرة بموقف السعودية حينها، ثم ربط السؤال بانهيار الأسعار عام 1986. أجابني بسرعة، ولكنه بدا مثل الطالب المفلس، الذي يكتب ما يعرفه وما يحفظه، وليس الإجابة المطلوبة، بدأ يتحدث عن أمور حول الموضوع، وليس في صلبه، وبدل الحديث عن تأثر النفط بالحرب تحدث عن الحرب ذاتها، وبدل التحدث عن موقف السعودية تحدث عن أهمية السعودية. الإجابات التي يمكن أن تحصل عليها من البحث في مقالات محددة، وأبحاث تخرجها محركات البحث وقواعد البيانات، أفضل كثيراً. صحيح أنها ليست مختصرة وربما عليك أن تنقب فيها قليلاً لكنها تقدم مادة أفضل كثيراً. وإجابات هذا التطبيق لن تعطي الطلاب درجات جيدة، إلا إذا كان الأستاذ لا يعرف موضوعه. التجربة الثانية، سألته عن كمال عدوان، القائد الفلسطيني الذي اغتالته إسرائيل عام 1973 في بيروت، مع قائدين آخرين (أبو يوسف النجار وكمال ناصر). عدا عن القيام بكتابة تفاصيل لا علاقة لها بالسؤال مباشرة، مثل توضيح من هو كمال ناصر (لم يُعرّف النجّار)، وعدا عن فشله في معرفة أمور أساسية مثل دراسة وعمل عدوان في قطاع النفط، قام بما يقوم به غير المختصين وغير المتابعين، مثل الخلط بين منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة «فتح»، وإعطاء عدوان مناصب لم يتولها. من بين النقاشات حول الموضوع، أحد الزملاء في إحدى الجامعات، أخبرني أنهم عقدوا اجتماعا خاصا ماذا يفعلون في مثل هذا البرنامج الذي قد يصبح طريقة لحل الواجبات، وكتابة المقالات والأبحاث. وجدت أن توماس فريدمان، كاتب العامود الشهير في نيويورك تايمز، وربما أشهر كاتب صحفي في العالم، وصاحب كتب بالغة الأهمية مثل «عالم مسطح» لتحليل العولمة، يخصص مقالات عدّة للتطبيق، واستشار عدد من الخبراء قبل أن يكتب، وفي آخر مقال أنّ هذه التطبيقات مع التغير المناخي «جنّيان» سيغيران العالم، ولكني خرجت من مقالاته بنتيجة أنّه ما يزال يفكر بالموضوع ولم يصل نتائج حقاً. وأخيراً، استمعت على راديو مونتكارلو لتقرير عن تظاهرات كتاب السيناريوهات والمؤلفين في هوليوود (عاصمة السينما العالمية) احتجاجاً على استخدام أو احتمال استخدام هذه البرامج للقيام بعملهم. في الواقع إنّ برامج الذكاء الصناعي ستختصر كثيرا من المهن والوظائف، التي هي في حقيقتها تحتاج قدرات عضلية وميكانيكية، كما فعل الحاسوب والآلة الحاسبة عموماً، وقد اختصر الإنترنت فعلاً الأوقات المطلوبة لجمع البيانات والمعلومات، لكنه أوجد مشكلات جديدة، مثل الانتقال من مشكلة ندرة المعلومات إلى وفرتها الزائدة (فيضانها) بما فيها البيانات الكاذبة، ولكن صناعة المعنى من المعلومات تبقي بيد المفكرين والكتاب الحقيقيين. قد تكون لهذه البرامج نعمة التخلص من غير المبدعين. الذكاء الصناعي يعني أنه يجب أن يكون الشخص متقنا لما يفعل حقاً ليجد مكانه، أما أنصاف المهرة، وأنصاف المتعلمين، وأنصاف المثقفين، وأنصاف الخبراء، وأنصاف كل شيء، سيعانون إلا إذا تطوروا. نخبوية العلم والتعليم ستزيد. المقال السابق للكاتب خضر عدنان.. “البدايات” والمهمة الأخيرةاضافة اعلان