سلمى الخضراء.. بطولة الصوت الخفيض

د. أحمد جميل عزم- أخبرتني د. سلمى الخضراء الجيوسي، عن صعوبة تحديد التاريخ الدقيق لسنة ولادتها، حتى تيقنت العائلة أنّ تاريخ ولادتها هو 16 نيسان (إبريل) 1923ـ أي أنها غادرت دُنيانا عن مائة عام وأربعة أيام (20 نيسان (إبريل) 2023). كنت أناقش د. لينا الجيوسي، كريمتها، في الأمر، فقالت: هي «شاهدة على قرن كامل». فضلا عن لقاءات كثيرة مع سلمى، في عمّان، ودبي، ولندن، استمر تواصلنا عبر البريد الالكتروني، وكانت آخر رسالتين تعليقا لها على الواقع العربي، بعد ذلك وبسبب «الخوف من كورونا» تراجعت اللقاءات، عدا اتصالات هاتفية محدودة، وآخر ما وصلني منها إهداء بخط يدها المرتعش على ديوان شعرها، الذي صدر وهي في الثامنة والتسعين بعنوان «صفونا مع الدّهر»، وهو نوع من سيرة ذاتية شعرية. لم أقابل شخصاً إنساناً متحمساً للعرب والعروبة، بقدر سلمى، اعتدتُ توقع بكائها حيث يتهدّج صوتها، حباً وألماً، وهي تتحدث عن عظمة الإرث العربي والخوف من المستقبل. من قصص سلمى أنّها كانت مع ابنتها في إحدى المطارات الغربية، وكانت الابنة تقرأ في كتاب المؤرخ الأميركي لويس ممفورد، «المدينة في التاريخ». تصفحت سلمى الكتاب، تبحث عن أي مدينة عربية أو إسلامية، وقفت غاضبة حزينة باكية، ارتفع صوتها وبكاؤها، وهي تعد أن تصحح الأمر. كتبَت لاحقاً تُعلّق أنّ عمل ممفورد «كُتب بشكل جميل، لكنه لم يتضمن أي مدينة إسلامية، كما لو كانت هذه المدن وجدت وسُكِنت خارج العالم المبني، وبالتأكيد خارج التاريخ الإنساني نفسه». هذا التعليق لسلمى ورد في مقدمة كتابها «المدينة في العالم الإسلامي»، الذي نشرته بالإنجليزية، بمجلدين ضخمين، تصديقا لوعدها في المطار، ويلخص جانبين من شخصيتها. الأول تقييمها الموضوعي للآخرين، فقد تختلف معهم ولكنها لا تنكر إنجازهم وتميزهم، وهذا شاهدته وسمعته بمواقفها من شعراء وكتّاب عرب تجادلت معهم منذ الخمسينيات، في مجلتي شعر والآداب، ومنذ كانت محررة الملحق الأدبي في صحيفة الأنوار اللبنانية. الأمر الثاني، وكما يتضح في موضوع المدينة الإسلامية، دعت سلمى وأدارت عملية كتابة 46 بحثاً كتبها كتاب عالميون من جنسيات ودول عديدة، عن مدن إسلامية وعربية، أي أنّها استنفرت «كتيبة» كُتّاب وباحثين ليدرسوا تاريخ المدينة العربية والإسلامية، ولكن سلمى لا تتحدث عن العمل حتى تنجزه. لم تنتقد كتاب ممفورد حتى جهّزت الرد. الذي اطّلعوا على كتاب «المدينة في الإسلام»، تذكروا عملها الضخم جداً، عن الأندلس، ففي عام 1989، وبينما كانت تعمل على ترجمات مجموعة المسرح العربي الحديث ومجموعة الأدب الفلسطيني الحديث (الأولى)، أمضت سلمى السنة تكاتب مؤسسة الآغا خان في باريس وجنيف حول إعداد كتاب عن الأندلس، وحصلت على الموافقة على تمويل الكتاب، الذي طبع بعدة مجلدات بمشاركة عشرات الكتاب العالميين، عِدّة مرات، وطبع بالعربية ثلاث مرات على الأقل، أطلق في غرناطة، حي البزازين، وافتتحه الملك الإسباني خوان كارلوس، بنفسه بحضور الآغا خان. في آخر سنوات حياتها، كانت كمن يركض دون توقف، لتقدم أعمالا جديدة، من ضمنها عمل موسوعي عن تاريخ صقلية والأدب العربي هناك، وكانت مسكونة بشكل خاص بنفي فرضية أنّ الأدب العربي في الماضي كان مقتصراً على الشعر وتؤلف كتاباً عن ذلك. نشرت سلمى ورعت وأدارت ترجمة عشرات الروايات والأعمال الشعرية، لكل الدول العربية وأدارت تأليف كتب وإقامة مؤتمرات حول القدس، وحقوق الإنسان في الفكر العربي، وموضوعات أخرى، مُقدمةً عشرات آلاف الصفحات للمكتبة العالمية. ودائماً ما كان يستجيب لها أهم الكُتّاب العالميين، وتُقبل عليها أهم دور النشر العالمية، وفي كل هذا كانت تعمل من بيتها دون مكتب أو سكرتير. ورغم تقدمها في السن ظلت تتواصل عبر الانترنت والبريد الالكتروني، توجه الأسئلة بقدر ما تقدم إجابات، حريصة على أناقتها، تحب دعوة عائلتها وأصدقائها لتناول الطعام، أو ما تسميه «إرثا عربيا» هو «المؤاكلة». نظريتها «بطولة الصوت الخفيض»، أي أن البطولة لا تحتاج صوتا مرتفعا دائماً بل العمل والإنجاز والاستمرار في الحياة اليومية بأكثر اجتهادٍ ممكن، وهذه هي سلمى. أي كتابةٍ قصيرة عن سلمى لا تكفي، هي بحاجة لعمل بحجم اجتهادها هي، بدءا من أمها المناضلة الشاعرة، ووالدها المحامي الوطني، إلى حياتها الشخصية، والشعرية، والأدبية، والفكرية. المقال السابق للكاتب  السعودية والعودة إلى ما قبل الثورة الإيرانيةاضافة اعلان