"ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا"

figuur-i
figuur-i

د. محمد المجالي

حقيقة ذكرها الله تعالى في سورة (غافر) في مطلعها، حيث افتتح سبحانه بقوله: "حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا، فلا يغررك تقلبهم في البلاد"، فهو حديث عن نزول الكتاب من لدن عزيز عليم، وتعريف به سبحانه بأنه غافر الذنب، قابل التوب، ومع هذا فهو أيضا شديد العقاب، وهو أسلوب قرآني معهود، حيث الجمع بين الترغيب والترهيب، وهنا قدم الترغيب إذ هي بداية سورة، والأصل كذلك، ولو كان السياق متحدثا عن قصة ما تطلبت تقديم الترهيب لكان، ولكنها البداية التي يريد الله من خلالها –كما هو شأن القرآن كله- بيان أن رحمته سبقت غضبه، وأن هذه الرسالة رحمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وبداية القرآن هي رحمة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم…"، وهذا ليس عبثا، بل مقصود منه سبحانه.اضافة اعلان
والعجيب أن اسم هذه السورة (غافر)، ولها اسم توقيفي آخر هو (المؤمن)، حيث قصة مؤمن آل فرعون، ولم يغب مصطلح الغفران حتى عن قصته في حواره مع فرعون وإقامته الحجة عليهم، وهكذا فهي المغفرة والرحمة تغلبان على كنه الخطاب القرآني، وكذا التشريع، وربما يستغرب أحدنا إن قيل إن خطاب العقاب والترهيب أحيانا هو في ذاته رحمة، لأنه ردع للإنسان من أن يبقى مصرا على ذنبه وإعراضه، فتخويفه من أجل مصلحته، ورد له عن غيّه، وتنبيه له من جرأته على الله، وهكذا مبدأ العقوبات كله في الإسلام، هو رحمة للمقترف من جهة، وللمجتمع كله ليأمن ويستقر من جهة أخرى.
كثرت في السورة مواطن الحديث عن المغفرة، ليتناسق هذا مع اسم السورة، فالاسم ليس عبثيا، إنما هو حاضر في شخصية السورة وموضوعاتها، أما عنوان المقال فهو أيضا مقدمة لبعض مواضع الإنكار والجدل لآيات الله بعد إذ تبينت، سواء في قصة فرعون، أو طبيعة الإنسان المتكبر المُعرِض، والجدل هنا الذي لا ينفع معه الحوار، حين يصر المعارض على رأيه ولو قامت البينات كلها ضده، فقد كفر بعقله وضميره قبل أن يكفر بخالقه، فالحقيقة أن الإنسان في أعماقه يعرف بل يتيقن بوجود الله، وبالحق، ولكنه العجب والكبر والهوى، حين ينتصر لنفسه وينسى مصيره، هنا يتبين لنا لماذا تحدث الله عن الترغيب والترهيب، رأفة بهذا الإنسان المعاند، الذي يظن نفسه مخلدا، وما هو إلا عمر قصير فكل شيء هالك إلا وجه الله تعالى.
في خضم هذه الكلمات والحقائق بأن المعاند والمجادل في الأدلة البينة هو كافر، يأتي التوجيه الرباني: "فلا يغررك تقلبهم في البلاد"، لا تيأسن من سلطتهم وقوتهم، فما على الإنسان إلا الأخذ بالأسباب، لا تغرنك يا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنكم يا أهل الحق في أي زمان تقلب الكافرين واستعراض قوتهم، فقد كذبت قبلهم أقوام عتاة، وكان مصيرهم الهلاك: "كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأخذتهم فكيف كان عقاب"، فهي سنة باقية، لكنه الغرور عند أصحاب القوة، يظنون أن قوتهم خالدة غالبة، وينسون أن الله مؤيد عباده المستضعفين، وأن مع العسر يسرا، وأن: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، وأن: "والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
وإذ يبين الله مصير الظالمين في الدنيا، فهو يبين مصيرهم في الآخرة: "وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار"، ولكن الذي ينبغي أن نقف عنده ولا تكون لغتنا عاطفية فيها اتكال لا توكل، وهو أن مثل هذه السنن الإلهية إنما تجري لصالح المؤمنين حين يتحركوا بهذا الدين، وحين يحملوا هم الأمة، وحين يعيش أفرادها كبارا بمسؤولياتهم وهمومهم وغاياتهم، يتعدون مصالحهم الذاتية ويحلّقون بعيدا في أحلام الأمة وعزتها وسؤددها، وهذا الفرق بين صاحب الإيمان البارد الذي ينعكس على الفرد صلاحا، وبين الإيمان المتقد الدافع إلى العلياء، الذي ينعكس على الفرد صلاحا وإصلاحا، والذي يحيي الأمل ويرتقي بالأمة، ويعد العدة لعزتها والنهوض بها، لا يكل ولا يمل، لأن الله بث في كتابه بشارات كثيرة، وكذا فعل رسولنا صلى الله عليه وسلم في سنته.
لا نلوم أعداءنا في تسلطهم، فشأنهم أوضح من أن تبينه الأيام، ولكن نتهم أنفسنا في ضياعنا وتشتت ولائنا واتباعنا لغيرنا، وتقصيرنا في أخذنا بأسباب النصر والعزة، ابتداء بأنفسنا ومن نعول وتوسعا بعد ذلك في دوائر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والمصير كله عند العليم الخبير، سبحانه.