عواقب الحرب على الإرهاب وحرب العراق‏

‏جنود أميركيون يستعدون لركوب مروحية نقل عسكرية في قاعدة الأسد الجوية، العراق - (أرشيفية)
‏جنود أميركيون يستعدون لركوب مروحية نقل عسكرية في قاعدة الأسد الجوية، العراق - (أرشيفية)

‏‏‏أتول سينغ؛‏‏ ‏‏وغلين كارل – (فير أوبزيرفر) 7/8/2023

‏تحول الغزو الأميركي للعراق إلى فشل ذريع خلف آلاف القتلى العراقيين وقوّى أعداء أميركا. في الداخل، فقد الأميركيون احترام الشرعية الديمقراطية واستخدموا التعذيب لمكافحة الإرهاب.

اضافة اعلان

 

وفي حين كان الإرهاب يشتت انتباههم، مرت التهديدات الأكبر للولايات المتحدة من دون أن يلاحظها أحد.‏ وفي هذا التحليل يغوص أتول سينغ وغلين كارل عميقًا في عواقب الغزوات الأميركية والحرب العالمية على الإرهاب.‏
*   *   *
‏كان الغزوان الأميركيان للعراق وأفغانستان كلاهما نجاحات تكتيكية مذهلة، لكن الاستراتيجية التي أرشدتهما كانت مشوشة. لم تكن لدى الرئيس جورج دبليو بوش أي نية لإلزام الولايات المتحدة بمهمة "بناء الأمة". لكنه جعل من المستحيل تجنب الاضطلاع بمهمة بناء الأمة بسبب تدمير هياكل السلطة القائمة في البلدين. ووجدت الولايات المتحدة نفسها في وضع كان الانسحاب سيؤدي فيه إلى ترك فراغ في السلطة من الممكن أن يشغله الفاعلون السيئون مرة أخرى، مما يقوض الهدف من الغزوات من الأساس.‏


سياسة أيديولوجية غبية‏

 

‏اتبعت الولايات المتحدة سياسة متعصبة أحادية التفكير عملت على اجتثاث حزب البعث. وعمد المحافظون الجدد الأميركيون الأيديولوجيون إلى استبعاد جميع أعضاء حزب البعث من الأدوار والوظائف العامة في العراق.

 

ولم يؤد هذا إلى التخلص من النخب الحزبية فحسب، بل أدى أيضًا إلى إبعاد موظفي الخدمة المدنية العاديين، مثل رجال الشرطة ورجال الإطفاء والمعلمين.

 

وتجدر ملاحظة أن هؤلاء لم يكونوا بعثيين أيديولوجيين، لكنهم أصبحوا أعضاء في الحزب بهدف جعل حياتهم أسهل في مجتمع استبدادي. وأدت سياسة اجتثاث البعث غير الحكيمة التي انتهجتها أميركا في العراق إلى اندلاع وصعود الفوضى الاجتماعية والعنف الطائفي. ‏


بعد عقود من الاضطهاد، نفذ الشيعة انتقامًا وحشيًا من السنة. كانت أعدادهم دائمًا أكبر، لكنَّ السنة كانوا الأقلية المهيمنة في عهد صدام حسين. ومع رحيل صدام، حصل الشيعة المدعومون من إيران على فرصتهم الآن.

 

وأدت هيمنة الشيعة إلى رد فعل من السنة، وظهر تنظيم "الدولة الإسلامية" في البلد على خلفية الاستياء السني. ‏
‏كان العراقيون بعيدين كل البعد عن الحنين إلى صدام القديم الجيِّد. لكنهم لم يتمكنوا، مع ذلك، من مسامحة الولايات المتحدة على حمام الدم الشيعي - السني الجديد والفوضى العارمة التي أودت بحياة الآلاف من العراقيين ودمرت الاقتصاد. وأصبح التمرد ضد العم سام الشرير حتميًا لا مفر منه.‏


المشكلة في التمردات‏

 

‏يكاد يكون من المستحيل قمع حركات التمرد بواسطة جيش مهما بلغ حجمه. وقد وجدت بريطانيا، التي كانت قوة إمبريالية متمرسة، أن إخماد التمرد في أيرلندا الشمالية صعب بما يكفي.

 

أما الولايات المتحدة فغير مناسبة -مؤسسيًا- لهذه المهمة، وهي تفتقر إلى الخبرة في إدارة إمبراطورية. وكانت محاولة إخماد تمرد في بلد أكبر بكثير من إيرلندا، على الجانب الآخر من العالم، مهمة تتجاوز قدرات واشنطن.‏


على الرغم من أن الأحداث التي تكشفت في العراق كانت تمردًا لا لبس فيه، أصرت إدارة بوش في خطابها للجمهور على أن ما يجري كان حربًا ضد الإرهابيين.

 

وتم تقديم وجود تنظيم "القاعدة" في العراق كدليل على أن ما يجري يندرج في الحرب العالمية على الإرهاب. وفي الواقع، كان "القاعدة" موجود لأن الولايات المتحدة خلقت له الفراغ اللازم لكي يزدهر. وقد رأى تنظيم القاعدة في التمرد فرصة لقتل الجنود الأميركيين و‏‏الجهاد.‏


‏في العام 2004، أسس أبو مصعب الزرقاوي "تنظيم القاعدة في العراق" الأكثر تطرفًا من "القاعدة" الأصلي. وكانت سيطرة القيادة المركزية لـ"القاعدة" على هذه المجموعة ضعيفة، ولم تتمكن من منع الزرقاوي من تنفيذ عمليات قتل وحشية، ليس ضد الأميركيين "الكفار" وإنما ضد المواطنين العراقيين أنفسهم. ثم تحول هذا إلى تنظيم "داعش" الذي لم يكتف بالاستمرار في اجتياح العراق السني فقط، وإنما تمدد أيضًا إلى سورية التي تحكمها عائلة الأسد الشيعية.‏


لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للتعامل مع هذا النوع من التفكك في نسيج الشرق الأوسط. وفي نهاية المطاف، ألحق التمرد في العراق أضرارًا بالولايات المتحدة ومرغ إرادتها لمواصلة القتال الخيّر في رمال المنطقة.‏


‏التعذيب وروح أميركا‏

 

‏على الرغم من أهوال الحرب في الشرق الأوسط وأفغانستان، كانت الولايات المتحدة منفصلة جغرافيا عنهما. ومع ذلك، كان للحرب العالمية على الإرهاب تأثير عميق على تآكل الديمقراطية الأميركية نفسها.‏


لطالما انطوى الأميركيون منذ وقت طويل على رعب من التعذيب. وقد حظروه في وثائقهم التأسيسية وحاكموا جريمة ارتكابه بقوة بعد الحرب العالمية الثانية. وخلال "الحرب العالمية على الإرهاب"، قام أفراد أميركيون بتعذيب السجناء للحصول على المعلومات. وكانت لديهم أوامر باستخدام "أي وسيلة ضرورية"، وأصبحت "تقنيات الاستجواب المعززة" كناية عن التعذيب.‏


‏عندما تم تطبيع التعذيب، سرعان ما تسرَّب إلى الثقافة الأوسع. ومن المقلِق أن غالبية الأميركيين الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا -الذين بلغوا سن الرشد خلال الحرب- يجدون التعذيب مقبولاً. أما بالنسبة للأجيال السابقة من الأميركيين، فكان التعذيب –وما يزال- شيئًا لا يمكن حتى تصوره.‏


يمكن للكوارث أن تجعل الدول تنقلب حتى ضد أعز مبادئها. بعد أن رأى الرومان جيشهم يُباد على يد حنبعل في كاناي، تحولوا إلى القبول بالتضحية البشرية بدافع اليأس. وكان لهجمات 11/9 نفس التأثير النفسي على الأميركيين.

 

لقد تعرض بلدهم للهجوم، وكان الأميركيون على استعداد لفعل أي شيء للرد على ذلك.‏


كان غلين قد عاش تجربة مخيفة وهو يرى زملاءه من ضباط وكالة المخابرات المركزية وهم ينفذون أوامر من الرئيس يعرفون أنها مخالفة للقانون.

 

ولم يكن ما يفعلونه شيئًا فاجرًا وغير أخلاقي وغير قانوني فحسب؛ كان يمثل انهيارًا لسيادة القانون. وفي الولايات المتحدة، القانون الذي وضعه الشعب، هو الذي يحكم - وليس أهواء الرجال الأفراد. وقد تم انتهاك هذا المبدأ مرارًا وتكرارًا خلال "الحرب على الإرهاب"، حيث اختار الضباط إطاعة الأوامر غير القانونية بدلاً من رفضها.‏


لن يكون للقوانين أي معنى إذا غابت ثقافة احترامها. وقد صنع التعذيب ثقافة يكون فيها الولاء السياسي أكثر أهمية من احترام القانون. ويمكن للمرء أن يتعقب خطًا مباشرًا من تآكل قيم الديمقراطية والشرعية خلال سنوات بوش إلى الهجوم سيئ السمعة على مبنى الكابيتول الأميركي في 6 كانون الثاني (يناير) 2021.‏


‏ضربة للنفوذ الأميركي الدولي

 

كان صقور المحافظين الجدد الأميركيين يأملون أن يؤدي غزو العراق إلى إخضاع إيران. واعتقدوا أن هذه القوة الشيعية الثورية ستكون أقل تخريبًا وعدوانية في المنطقة؛ سوف يتعلم ملالي طهران عواقب الذهاب بعيدًا في تخطي الحدود. ‏


‏ولكن، للأسف، لم يكن يمكن أن تأتي هذه الاستراتيجية بنتائج عكسية أسوأ. اليوم، تمتد قوة إيران في جميع أنحاء المنطقة. وبعد رحيل صدام حسين، الخصم السني اللدود لإيران، لم يعد لديها ما يمنعها من بناء وتوسيع شبكتها من الحلفاء الشيعة. ولم يوسع ملالي طهران الآن نفوذهم في العراق فحسب، بل عززوا أيضًا علاقاتهم مع جماعة "حزب الله" الشيعية المسلحة في لبنان، ومع سورية الأسد، وحتى مع المتمردين الحوثيين في اليمن.‏


كانت سورية نفسها ضحية لحرب العراق. فقد زعزعت الجماعات السنية المتمردة المتمركزة في العراق استقرار البلد، في محاولة الإطاحة بالرئيس السوري. وفي نظر السنة المتعصبين، الأسد علوي شيعي، وبالتالي "كافر". وكانت سورية، التي أضعفها ارتفاع درجات الحرارة وموجات الجفاف المطولة وفشل المحاصيل، هشة مسبقًا. وقد تحطم التعايش غير المستقر بين الأقليات الدينية والعرقية عندما ظهر تنظيم "داعش"، مما عجل باندلاع حرب أهلية دموية.‏


‏ارتكب النظام الحاكم في سورية العديد من التجاوزات في مجال حقوق الإنسان من أجل الاحتفاظ بالسلطة. وتمكن من الصمود بفضل إيران وروسيا. والآن، يقوم العرب الآخرون بدعوة سورية مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات.

 

وتدق إسرائيل، مع وجود لبنان وسورية على حدودها الشمالية، أجراس الإنذار منذ فترة من الوقت. ومن الواضح أن قوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أصبحت ضعيفة.‏


في أوروبا، كان وقع كل من حرب العراق في العام 2003 و"الحرب العالمية على الإرهاب" سيئًا للغاية. رأى الأوروبيون هذه الحرب التي تقودها الولايات المتحدة من دون موافقة الأمم المتحدة تجاوزًا ترتكبه قوة عظمى متغطرسة.

 

وكانت القوى الصاعدة، مثل البرازيل والهند والصين غير مرتاحة لهذا الغزو أيضًا. باختصار، لم تجلب الولايات المتحدة على نفسها غضب الكثير من العالم الإسلامي فحسب، وإنما غالبية العالم أيضًا. وبالنظر إليها الآن بعد مرور الوقت، كانت حرب العراق خطأ تاريخيًا.‏


تصرف مثير للحفيظة

 

‏كضابط مخابرات، درس غلين تنظيم القاعدة بتفصيل كبير. لم تكن هذه المنظمة الغامضة الظلية إمبراطورية عالمية، وإنما تحالفًا فضفاضًا مكونًا من بضع مئات من الأشخاص.

 

ولا يوجد أكثر من بضعة آلاف من الإرهابيين الجهاديين في العالم في أي وقت. وهم يشكلون خطرًا حقيقيًا وقائمًا، ولكن ليس خطرًا ينبغي أن يستهلك غالبية القوى والاهتمام العام لأكبر قوة في العالم. يجب أن تكون مكافحة الإرهاب مجالاً للمهنيين ذوي المهارات العالية، الذين يمكنهم القضاء على الإرهابيين أو القبض عليهم بأقل قدر من الضجة.‏


‏أمضت القوات المسلحة الأميركية، وهي أكبر جهاز عسكري شهدته البشرية على الإطلاق، 20 عامًا في إعادة تشكيل نفسها كقوة لمكافحة الإرهاب بينما تتجاهل "الفيل في الغرفة": الصين.

 

وفي عالم حيث تواجه أميركا مرة أخرى منافسًا نظيرًا، لا ينبغي أن تنفق كل هذا القدر من الانتباه على قضايا أصغر، مهما كان حجم خطورتها. ويرى غلين أن الجيش الأميركي سيكون قادرًا الآن فقط، بعد أن أفلت الرئيس جوزيف بايدن زمام أفغانستان أخيرًا، على إعادة تشكيل نفسه لخوض حرب تقليدية مكثفة.‏


‏خلال الحرب العالمية على الإرهاب، أعيد تشكيل وكالة المخابرات المركزية أيضًا لتصبح أداة لمكافحة الإرهاب. وأمضت الوكالة عقدين من الزمن وهي تندمج مع القوات الخاصة. ومع ذلك، لم يكن من المفترض أبدًا أن تكون وكالة المخابرات المركزية منظمة شبه عسكرية. إنها منظمة استخباراتية. ومهمة وكالة المخابرات المركزية هي الكشف عن التهديدات والتنبؤ بها، وليس مساعدة الجيش في عمليات مكافحة الإرهاب. يجب أن تستعيد الثقافة المؤسسية للوكالة هذا التركيز إذا ما أريد لها أن تواصل الاضطلاع بتلك المهمة بفعالية.‏


‏وحتى على جبهة مكافحة الإرهاب، خلقت الحرب العالمية على الإرهاب أولويات غير متوازنة. ويجادل غلين بأن إدارة بوش تجاهلت تحذيرات مجتمع الاستخبارات المتكررة حول حجم التهديد الذي يشكله القوميون البيض المحليون. وأصرت الإدارة على أنه يجب اعتبار الإرهاب الإسلامي التهديد الأكبر.

 

وبالمثل، أدى التركيز على الإرهاب الإسلامي إلى تحويل الاهتمام والموارد اللازمة عن التهديدات السيبرانية المتزايدة، وهي نقطة ضعف يمكن أن تستغلها الجهات الفاعلة المنفردة من غير الدول أو تلك التي ترعاها الدولة.‏


‏وبالإضافة إلى كل هذا، منع قصر النظر حول الإرهاب وتسييس تقييمات التهديد الإدارات الجمهورية من اتخاذ الخطوات الكافية لمعالجة مخاطر تغير المناخ، الذي يشكل تهديدًا أكثر مصداقية وجدية للوطن الأميركي من أي جيش معاد.‏


‏كل هذا يأتي على رأس إعادة هيكلة عميقة للحزب الجمهوري. لطالما كان للحزب فصيل انعزالي قوي، لكنه خضع لسيطرة مؤسسة أممية قذفت به من النافذة في أغلبه.

 

وأفقدت حرب العراق المحافظين الجدد المصداقية وخلقت ثقافة فوضى وانعدام للقانون، مما مهد الطريق أمام صعود الفصيل المتهور، الشعبوي والاستبدادي الصريح المهيمن اليوم.‏


‏لقد تآمرت حرب العراق والحرب العالمية على الإرهاب لإنتاج وضع ضُبطت فيه أميركا مكشوفة إلى حد كبير في المحيط الهادئ. كانت الصين تراكم قوتها بينما كانت الولايات المتحدة مشتتة ومنقسمة.

 

ولحسن الحظ، يبدو أن واشنطن تستيقظ على الواقع الآن، لكن الوضع كان يمكن أن يكون أكثر قابلية للإدارة لو أن رد فعل الولايات المتحدة بدأ في وقت أبكر وبحيوية أكبر.‏


*‏أتول سينغ‏‏ Atul Singh: المؤسس والرئيس التنفيذي ورئيس تحرير موقع Fair Observer، يدرِّس الاقتصاد السياسي في جامعة كاليفورنيا، بيركلي.‏ غلين كارل ‏Glenn Carle: مؤلف وضابط متقاعد في وكالة المخابرات المركزية يتمتع بخبرة غنية. قاد، بصفته ضابطًا نائبًا في الاستخبارات الوطنية، مجتمع وكالات الاستخبارات في إعداد أعلى تقييمات الحكومة الأميركية للتهديدات العابرة للحدود للأمة، لكل من الرئيس وأعضاء مجلس الوزراء وكبار القادة العسكريين في البلاد. ‏

 

*نشر هذا التحليل تحت عنوان: Consequences of the War on Terror and the Iraq War

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

حرب 2003 على العراق.. فورة "فرانكوفوبيا" في أميركا والمملكة المتحدة