غزة والعصيان في الجامعات الأميركية

مخيم للطلاب المناصرين للفلسطينيين في جامعة أميركية - (المصدر)
مخيم للطلاب المناصرين للفلسطينيين في جامعة أميركية - (المصدر)

في ظل الاحتجاجات التي ينظمها الطلاب في مختلف أرجاء الولايات المتحدة وأوروبا، يُعاد تحديد علاقة النخب الغربية بإسرائيل.
*   *   *
عندما تتحول الدراما الخاصة بك إلى سايكودراما أميركية، فاعرف أنك تحقق نجاحا. الآن، يواصل الطلاب في الولايات المتحدة احتجاجهم ضد المذابح التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وتدميرها مساحات واسعة من القطاع لجعل الحياة فيه مستحيلة. وقد أصبحت محنة الفلسطينيين قضيةً أخلاقيةً مركزيةً لجيل من الشباب الأميركي الذي لا يتحمل مشاهدة هذه الأعمال الشائنة وهي تتواصل.

اضافة اعلان


أرادت إسرائيل أن يكون ردها الانتقامي شيئًا لا يُنسى لئلا يحاول الفلسطينيون مجددًا شن هجوم مثل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). غير أن لذلك عاقبتَين؛ كلما واصلت إسرائيل قصف سكان غزة من دون رحمة، ازدادت المؤسسات الأميركية التي ترفض سحب استثماراتها مع إسرائيل حرجًا، ومنها جامعة كولومبيا التي عبرت عن هذا الرفض في 29 نيسان (أبريل).


واسترضاءً للمحتجين، عرضت رئيسة جامعة كولومبيا، مينوش شفيق، "القيام باستثمارات في مجالي الصحة والتعليم في غزة، بما في ذلك دعم تنمية الطفولة المبكرة ومساندة الباحثين النازحين".

 

كم هو معبر أن تُقر شفيق كما يبدو في جملة واحدة بأن ثلاثة من الأمور التي أمعنت إسرائيل في تدميرها تعسفيًا في غزة هي قطاعا الصحة والتعليم، والأطفال الصغار.


أما العاقبة الثانية، فهي أنه كلما زاد الدمار الذي يلحقه الإسرائيليون بغزة، اكتسبت حماس مزيدًا من الشعبية.

 

ويؤكد أنصار إسرائيل، وقد يكونون على حق، أن عددًا كبيرًا من الدول العربية سيرحب بهزيمة "حماس". لكن النظام الرسمي يعرف أيضًا أن سخط الشعوب بسبب الوحشية الإسرائيلية في غزة سيكون له تأثيره على سلوكها في نهاية المطاف، ما يحد من هامش مناورته تجاه إسرائيل.


اتخذت إدانة الطلاب المحتجين أشكالًا عديدة، حيث اتهموا بـ"معاداة السامية" ودعم الإرهاب، حتى أن أحد الأميركيين المحافظين المؤيدين لإسرائيل وصفهم بأنهم "أولاد نخب أميركية وأجنبية يشعرون بالشفقة تجاه أنفسهم وبأنهم يملكون الحق بفعل ما يشاؤون، يتظاهرون نيابةً عن المصالح السياسية للأنظمة المُعادية للولايات المتحدة وإسرائيل".

 

والإغفالات في هذا الاقتباس لافتة. ولافتة هي أيضًا الحقيقة الجوهرية التي يبرزها الاقتباس، والتي يبدو أن صاحبه أغفل مضامينها.

 

من الواضح أن الاحتجاجات الطلابية لم تمس عصبًا حساسًا لدى المدافعين عن إسرائيل فحسب، بل أثرت أيضًا على حسن تقديرهم.


إذا كان ثمة ما يمكن أن يُقال عن علاقة الولايات المتحدة المميزة بإسرائيل، فهو أن النخب السياسية والعسكرية الأميركية أدامت هذه العلاقة، ودافعت عنها باعتبارها مفيدةً للمصالح الأميركية. وما لا يستطيع منتقدو الطلاب من المناصرين لإسرائيل هضمَه هو أن ما يشهدونه اليوم فعليا هو خيانة من النخب الأصغر سناً في الجامعات، الذين كان يُفترَض أن يكونوا في صفهم.

 

لقد أصبحت ثوابت الماضي المتغطرسة موضع شك لدى من سيصبحون في المستقبل صناع قرار ومسؤولين وأصحاب نفوذ، إلى حد أن التعاطف مع إسرائيل، الذي كان في متناول اليد سابقًا، لم يَعُد مضمونًا اليوم.

 

وأدى ذلك إلى اتساع الفجوة بين الأجيال، حيث يؤكد الطلاب أن وجهات نظر آبائهم بشأن إسرائيل لم يَعُد لها وزن كبير في ظل ما يعتبرونه إبادة جماعية في غزة.


لقد تطرق زميلي، آرون ديفيد ميلر، الذي كان مفاوضًا في الشرق الأوسط لسنوات، إلى تداعيات هذا الأمر في مقابلة أجراها معه آيزاك تشوتينر من "مجلة نيويوركر"، عندما قال : "إذا كنت تسألني: هل أعتقد أن جو بايدن يحمل لفلسطينيي غزة عمق المشاعر والتعاطف نفسه الذي يحمله للإسرائيليين؟ كلا، ولا يعبر عنه أيضًا. أظن أنه لا شك في ذلك على الإطلاق".


ما أشار إليه ميلر ضمنيا في ملاحظاته هذه هو انفصال بايدن عن الواقع الجديد. وجاءت إجابته بعد أن أشار تشوتينر إلى أن الرئيس غير قادر على الجمع بين خسائر الفلسطينيين والخسائر الشخصية التي تكبدها في حياته، على خلاف رد الفعل الذي عبر عنه إزاء الضحايا الإسرائيليين في 7 تشرين الأول (أكتوبر).


هذا الانفصال بين رأي النخب والناس سرعان ما اتضح بعد اندلاع حرب غزة. ففي حين سارعت إدارة بايدن والقادة الأوروبيون إلى الدفاع عن إسرائيل عقب هجوم حماس، أبدت مجتمعاتهم ترددًا أكبر في السماح لإسرائيل بأن تكون مُطلَقة اليد. وبعد مرور سبعة أشهر على الحرب، وإذ ارتفع عدد القتلى الفلسطينيين إلى ما يزيد على 30 ألفًا، وفقًا لمسؤولي الصحة في غزة، وإذ اعترفت الوكالات الحكومية الأميركية بأن إسرائيل منعت دخول الإمدادات الغذائية إلى غزة، متسببةً في مجاعة "حتمية"، وإذ ما تزال الحكومة الإسرائيلية تصر على دخول رفح، حيث لجأ 1.5 مليون شخص، ثبت أن المشككين هم الذين كانوا على حق، فيما المسؤولون الأميركيون والأوروبيون يتراجعون الآن عن مواقفهم على عجل.


قليلةٌ هي الأمور التي يمكن أن تثير الاشمئزاز أكثر من رؤية السياسيين يبدلون مواقفهم بسرعة البرق. فتصريحات أورسولا فون دير لاين، التي تحولت من القول في 14 تشرين الأول (أكتوبر) إن "أوروبا تقف إلى جانب إسرائيل التي تملك حق الدفاع عن نفسها؛ لا بل من واجبها الدفاع عن شعبها"، إلى الإعلان في وقت سابق من آذار (مارس) أن "قطاع غزة يواجه مجاعة ولا يمكننا قبول ذلك"، لا يمكن أن تكون سوى محض نفاق.

 

وإذا أسهم أي عامل في تحفيز إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب في غزة، فهو القبول التام الذي تلقته من أمثال رئيسة المفوضية الأوروبية.


وبالمثل، فإن سماع بايدن يصف القصف الإسرائيلي لغزة بأنه "تجاوز الحد"، لتعود إدارته وتوافق لاحقًا على تقديم مساعدات للجيش الإسرائيلي بقيمة 17 مليار دولار، يُظهر لماذا الطلاب محقون في ازدراء قادتهم إلى هذا الحد.


لا بد من الإشادة بالطلاب المحتجين في الجامعات الأميركية والأوروبية الذين رفضوا الرضوخ لإداراتهم الجبانة، أو للسياسيين المُخادِعين الذين أمضوا أشهرًا في إعادة تكييف مواقفهم بشأن بغزة لتتماشى مع مزاج ناخبيهم.

 

ووفقًا لرؤية الطلاب، لا توجد خفايا عميقة في جرائم القتل الجماعي التي يشاهدونها بصورة يومية. وقد عبرت عن هذا الرأي تشيساتو كيمورا، وهي طالبة في جامعة ييل، خلال مداخلتها في برنامج "ون وورلد" على قناة (سي. إن. إن)، قائلةً: "ولكن، في ما يتعلق بفهم ما يحصل، لا يمكن اعتبار أعمال العنف المُرتكبة بحق الفلسطينيين في غزة سوى إبادة جماعية… أضف إلى ذلك أن (محكمة العدل الدولية) قالت إن ثمة قضية معقولة، وهو أعلى قرار يمكن أن تتخذه في هذه المرحلة -الاعتراف بارتكاب إبادة جماعية.

 

علاوةً على ذلك، أجمع المجتمع الدولي، من خبراء قانونيين ومحامين في مجال حقوق الإنسان وأكاديميين وعدد كبير من الأشخاص، على الاعتراف -عن حق- بأن ما يحصل هو إبادة جماعية.

 

وأعتقد أن من المهم جدا تحديد سبب وجودنا هنا، لأننا نرى أعمال العنف هذه مباشرةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. وأعتقد أن تجاهلها مستحيل".


برز في هذا القسم بوجه خاص تعليق إحدى المحاورتَين في البرنامج، بيانا غولودريغا، التي ذكرت كيمورا بأن "إدارة بايدن صرحت، في وقت سابق من هذا الشهر، بأنه ليس لديها دليل على ارتكاب جرائم حرب في إسرائيل أو من جانب الدولة الإسرائيلية".

 

وبدا واضحا كيف أن القناة شعرت بالحاجة إلى إدراج هذا التعليق المثير للشك في المحادثة للتخفيف من وطأة تصريحات كيمورا، وكأن بالإمكان اعتبار إدارة تزود إسرائيل بالأسلحة لقتل عشرات الآلاف من سكان غزة صوتًا مستقلًا جديرًا بالثقة في كل ما يتعلق بالعملية العسكرية الإسرائيلية المدمرة في غزة.


ما تزال النخب في الولايات المتحدة تحافظ إلى حد كبير على روابطها مع إسرائيل، وترفض البحث في احتمال سحب الاستثمارات، وتتجنب استخدام مصطلح "إبادة جماعية" في وصف ما يجري، وتشعر بالإحباط من عدم استعداد الطلاب للانصياع إلى التهديدات الموجهة إليهم منذ أسابيع.

 

لكن ما يحصل في غزة في هذه المرحلة واضح جدا لدرجة يصعب معها إخفاؤه، ناهيك عن أن جميع الجهود المبذولة لتعزيز الموقف الرسمي من إسرائيل باءت بالفشل.

 

لا شك أن غريزة التمرد المثيرة للإعجاب لدى الطلاب قد تُفضي -أو لا تُفضي،- إلى تغيير كبير، إلا أنها تشكل مرحلة جديدة في رؤية الأميركيين للفلسطينيين، ورؤية الطلاب لأنفسهم ولبلدهم في العالم.

*مايكل يونغ: مدير تحرير في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، ومحرر مدونة "ديوان" في كارنيغي المعنية بشؤون الشرق الأوسط. كان سابقاً كاتباً ومحرر صفحة الرأي في صحيفة "ديلي ستار" اللبنانية، وينشر الآن مقالاً أسبوعياً في كل من صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية، وفي الموقع الإلكتروني "ناو ليبانون". مؤلف كتاب "أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن نضال لبنان من أجل البقاء" The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of

Lebanon’s Life Struggle

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

 

على السياسيين عدم الضغط على الجامعات لتقمع الاحتجاجات الطلابية