استشهاد "أصلان مسخادوف" ومسارات الصراع الشيشاني-الروسي

لعل في مقولة الفيلسوف سبينوزا: "عند حدوث الامور الجلل لا تضحك لا تبك بل فكر" ما يلخص  التعبير عن فداحة حادث إغتيال الرئيس الشيشاني "أصلان مسخادوف" في اليوم الثامن من آذار الجاري وفقاً للإعلان الروسي على أثر عملية خاصة.

اضافة اعلان


إغتيال هذا الرئيس الشرعي للحركة الاستقلالية الشيشانية لا يعد حدثاً عادياً بل هو تحول في ديناميكيات الصراع الشيشاني- الروسي المعاصر. فهذا الرئيس الذي فاز في انتخابات عام 1997 بنسبة قاربت 80%، في انتخابات عدت نزيهة وفقاً لمراقبين من منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، كان يعد ممثل الاعتدال والأمل الأخير لروسيا للخروج من أزمتها في الشيشان.


ولد "مسخادوف" في كازاخستان منتصف الخمسينات، شأنه في ذلك شأن معظم قيادات الحركة الاستقلالية الشيشانية مثل: جوهر دوداييف، وزيلمخان ينادربييف، وغيرهما، وهم بهذا المعنى جيل التعبير عن المخزون الذهني الشيشاني الجمعي عن واحدة من أكبر جرائم العصر في القرن العشرين أو ما يعرف بالنفي الستاليني.


وقد تطور مسخادوف في خدمته العسكرية اثر تخرجه من الاكاديمية العسكرية عام 1972 من جورجيا، ليصل لمنصب رائد في القوات  السوفيتية وتولى منصباً حساسا في جمهورية لتوانيا. وفي عام 1992 استقال من منصبه في الجيش السوفييتي لينضم الى الحركة الاستقلالية الشيشانية، ليتقلد منصب رئيس الأركان الشيشاني عام 1994، وفي عام 1996 قاد عملية تحرير غروزني العاصمة الشيشانية من القوات الروسية والتي دفعت إلى إنسحاب روسي مذل من جمهورية الشيشان.


وعلى إثر توقيعه معاهد إنهاء الصراع مع الرئيس الروسي، آنذاك، "بوريس يلتسن" والذي وصف المعاهدة بدوره أنها تنهي صراعاً بين روسيا والشيشان منذ أربعمئة عام، تولى "مسخادوف" رئاسة الجمهورية الشيشانية، وسعى لبناء دولة قومية معاصرة تقوم على علاقة استراتجية مع روسيا، وحاول احتواء النزعات الشيشانية الداعية الى استمرار الحرب مع روسيا، والسيطرة على رجال العصابات في الشيشان والذين بدأوا ممارسة نشاطاتهم الاجرامية في الجمهورية باسم المقاومة.


ومع  اعادة دخول القوات الروسية والشيشانية مجددا عام 1999 دعا مراراً الى حل سلمي ودعا روسيا الى الجلوس على طاولة التفاوض لحل الأزمة وإنهاء الحرب، ولم يجد آذاناً صاغية من قبل متطرفي المؤسسة العسكرية الروسية وصقور الحكومة الروسية الذين يمثلهم الرئيس الروسي الحالي "فلاديمير بوتين".


اغتيال مسخادوف ارتبط  بطبيعة السياسة الروسية التي انتهجتها في الشيشان منذ تجدد القتال عام 1999، والتي اتسمت بممارسة تعتيم إعلامي بعدم السماح للإعلام الاجنبي بتغطية الحرب إلا من خلال الجيش الروسي، وبمزيد من الصرامة التي كانت سبباً في العديد من انتهاكات لحقوق الانسان وسياسات تطهير، وفلترة (وهو الوصف المستخدم لمخيمات الاعتقال)، لدرجة قاربتها بعض الجهات بالابادة الجماعية "الهولوكوست".


وبالاضافة إلى تلك السياسة انتهجت روسيا استراتجية عسكرية-أمنية تقوم على تصفية القيادات الشيشانية جسديا بدءاً بـ"جوهر دوداييف"، ومروراً بـ"زيلمخان يندرباييف"، ووصولاً الى "مسخادوف". سياسة  التصفية الجسدية الروسية هذه استندت على فكرة أن تصفية القيادات ستؤدي إلى تفتيت هياكل المقاومة، ولكن هذا لم يصح، بل على العكس كانت تدفع إلى مزيد من التصعيد في الصراع.


القوات الروسية كانت قد وضعت "مسخادوف" على لائحة التصفية الجسدية منذ البداية، وهي التي أطلقت عليه تسميات من نوع "شبيه بن لادن" ورفضت الجلوس معه على طاولة التفاوض، وذلك على الرغم من أنه يعد الأنسب والأمثل لاعتداله، وللقبول الدولي الذي يلقاه في العالم باعتباره رئيساً شرعياً، وفوق هذا كله الأكثر تأثيراً على فصائل المقاومة الشيشانية، كما أثبت في اعلانه لوقف اطلاق النار من جانب واحد في بدايات شباط/ فبراير الماضي وانصاعت له جميع فصائل المقاومة الشيشانية الأمر الذي أوقع روسيا والحكومة الموالية لها في الشيشان، حيث ادعى الطرفان مراراً أنه "ميت سياسياً" وليس له تأثير على فصائل المقاومة.


اغتيال مسخادوف يأتي في سباقات توزع القوى داخل الشيشان، فمنذ محاولات روسيا بوتين فرض حلول غير عملية من قبيل إقرار دستور للشيشان والإتيان بالمفتي السابق "أحمد قاديروف" على رأس سلطة موالية، (وقد كان مقتله في مايو 2004 بذاته نتاجاً لتلك السياسة الروسية)، وقد خلفه "الو الخانوف"، بشكل أشر على إستمرار روسيا بنهجها. توزعت القوى الشيشانية ما بين ذلك التيار الموالي لروسيا، وتيار "اصلان مسخادوف" القومي المعتدل، والجناح المتطرف في المقاومة الشيشانية والمتحالف مع التيار السلفي-الجهادي الذي يمثله المقاتلون العرب في الشيشان.


مسخادوف أثبت، ومع اعلانه وقف اطلاق النار، وبما لا يدع مجالا للشك، قوة تأثيره ونفوذه وسيطرته على الشيشان، وعلى ذلك فقد كانت فرصة روسيا للاستماع إلى طروحاته حول التفاوض واحلال السلام في الشيشان، والذي كان المخرج الوحيد لروسيا من أزمتها في الشيشان.


اثبات مسخادوف قوة تأثيره دفع "رمضان قاديروف" للاعلان عن تعقبه، لأنه تهديد حقيقي للفساد والتشكيلات غير الشرعية التي يضطلع بها "رمضان" حتى أنه يشكل نموذج دولة داخل دولة، وسلطته الفعلية أقوى من سلطة "الخانوف"، بتأييد روسي بالطبع.


وعلى حين أن الجناح المتطرف الشيشاني كان يعاني من تراجع في شعبيته، بعد حادثة بيسلان، والتيار المتحالف معه (السلفي-الجهادي) كان يعاني مأزقاً من نقص التمويل وتصفية قياداته، فإن مقتل مسخادوف، يبدو أنه سيدفع إلى مزيد من التصعيد في الشيشان.


فالتيار القومي المعتدل سيسعى للانتقام من مقتل قائده ورمز الاستقلال الشيشاني، وبالتالي فإن هجماته ستتجه نحو القوات الروسية والحكومه الموالية لروسيا، وسيحتاج لوقت ليجد بديلاً عن قائده يدفع الى التفاوض والجلوس لحل الازمة.

كما أن التيار المتطرف سيجد فرصة لإعادة ترتيب نفسه، وشن هجمات جديدة ضد روسيا، ولا يعتقد أنها ستقتصر على الداخل الشيشاني، حيث أن مسخادوف كان يمارس دوراً مهماً برفض العمليات العسكرية خارج الأراضي الشيشانية، على الرغم من حدوث العديد من العمليات في الخارج إلا أنها الآن مرشحة للتزايد خاصة وأن هذا التيار سيتحرر من اعتبارات قائد الدولة السياسية.


وأما الحكومة الموالية لروسيا فقد خسرت مرتين: الأولى عندما ستكون عرضه لهجمات المقاومة الشيشانية، والثانية بتراجع شعبيتها اكثر مما هي عليه من انعزال، فالاحباط الذي يولده أغتيال مسخادوف باعتباره، بنظر العديد من الشيشانيين، الأمل الباقي لإحلال السلام في الشيشان، وهو الأمر يدفع الى تزايد المنضمين الى المقاومة ورفض حلول الحكومة الموالية للشيشان، وهو ما يفند، بذات الوقت، الرغبة الروسية في شيشنة الصراع، فعزل هذا التيار سيبرزه كجزء من القوات الروسية لا كسلطة مواليه شيشانية فحسب.


يبدو أن روسيا فتحت دوائر العنف في الشيشان على مصراعيها، ولم تلق بالاً للتحذيرات التي وجهها من قبل أكاديميون، ومنظمات غير حكومية، أو حتى منظمات أقليمية للتفاوض مع مسخادوف. فحالة اغتيال مسخادوف، ورغم عدم علمية مقولة "التاريخ يعيد نفسه" إلا أن طبيعة الصراع الشيشاني-الروسي الممتدة تشي بحالات تشابه عديدة وهذه الحالة تذكر بقصة اغتيال مؤسس الطريقة القادرية في الشيشان "كونت حجي" عام 1864،  حين خرج الالاف من مريديه  في مسيرة سلمية للافراج عنه. فقد كان "كونت حجي" من دعاة السلم ووقف الحرب التي انهكت شعوب شمال القوقاز على اثر انتهاء الحرب المريدية باستسلام قائدها "الإمام شامل". الرد الروسي على المسيرة كانت بفتح النيران عليهم، وقتلت ما يقارب الأربعة الاف شخص فيما عرف لاحقاً بأحداث شالي، ومن ذلك التاريخ تحولت الطريقة القادرية الى أكثر فئات المجتمع الشيشاني عدائية للقوات الروسية، وتقلدت زمام النضال ضد روسيا بعد أن كانت محصورة بالطريقة النقشبندية.


[email protected]