مجرد افتراض

لا نحتاج الى تكنولوجيا الاتصالات المتطورة لنرى كيف تحول العالم الى قرية صغيرة، فنحن نعيش فيها ونعطي كل حارة فيها اسم بلد، وما هذه الدول الكبيرة والصغيرة التي تتجبد على مساحات شاسعة من تراب العرب ورملهم المبلول بماء البحر الا حارات صغيرة يتجسد فيها الاقتراب من التراب والاغتراب عن الوعي. اضافة اعلان
ولا نحتاج الى الانترنت لنرى العالم الافتراضي، فنحن نصنعه بأوهامنا ونبني أسواره بأيدينا لنعيش فيه بأمان افتراضي، وما حياتنا الموزعة بين رغيف الخبز وشاشة الكمبيوتر الا حياة افتراضية، تتجدد بروتينها اليومي الممل الذي يقصف العمر قبل شيخوخة الجسد.
نفترض اننا نعيش، ونقبل أكفنا وظهور أيدينا لأننا أحياء، ولا يضيرنا تصنيف مستوى المعيشة في تقارير المنظمات الدولية المختصة، لأنها محكومة بأمزجة أشخاص جاحدين وناكرين للنعمة! ونفترض أننا نعمل وليس مهما ألا يحقق عملنا أي نتائج، ثم من قال أصلا أن العمل يجب أن يأتي بنتيجة؟ لو كان الربط صحيحا لكان أكثر الناس إنتاجا هم المحكومون بالأشغال الشاقة في السجون. 
ونفترض أيضا أننا نأكل، ولا يعنينا في شيء ما  تقوله التقارير الدولية الموثقة حين تؤكد أننا نقتات على بقايا موائد العالم الأول ونستهلك كل ما انتهت صلاحيته او اقتربت من النهاية، ويظل قمحنا اميركيا وأرزّنا صينيا وهنديا وحتى لحومنا تجيء من قاع الدنيا في استراليا ونيوزلندا.
منا من يفترض أيضا أننا كائنات حرة تطلق نتاج عقولها في فضاء الدنيا، وتضيء الكون كله بإبداعات فنية وعلمية وسياسية، سيعترف بها، في زمن ما الآخرون (الغرباء) المنهمكون في تخصيب الذرة وتصنيع المركبات الفضائية وتقنية الاتصالات وأمور صغيرة أخرى.
في المدارس وفي الأحزاب السياسية تعلمنا الكثير من الفرضيات. حفظناها عن ظهر قلب، وقبلناها كمسلمات لا تستقيم الحياة بدونها، بل إننا قاتلنا دفاعا عنها وعن صحتها الافتراضية، وكان منا من قضى نحبه ومنا من ينتظر في مسيرة النضال الوطني والقومي لإعلاء شأن الأمة التي كانت خير امة اخرجت للناس، وللحفاظ على قيم الحرية والمساواة والعدالة التي تميزنا بين شعوب الأرض!
لدينا سياسة حرة لا تتأثر بالضغوط، واقتصاد حر لا يتأثر بالفساد، وإعلام حر لا يتأثر بالعبث. ولدينا عالم افتراضي ممتع نمارس فيه ما نفترض أنه حياة. ولا مكان بيننا للمشككين ومدمني الدياليكتيك، والمسكونين بهواجس المقارنات الغبية بين أحوالنا وأحوال الآخرين (الغرباء)!
نعيش في عالم افتراضي حقيقي، كل ما فيه مفترض. وقد تحولنا الى كائنات افتراضية تأكل وتشرب وتتوظف في الدوائر الرسمية والشركات الخاصة وتغني في المناسبات وترقص بلا مناسبة وتتكاثر فتزداد اعداد الأميين والعاطلين عن العمل.
افترض ايضا أننا نقترف ما نفترض انه كتابة، او فن، او موسيقى، ونعتز بإنتاج فنانينا وادبائنا، ونشكر الحكومات على احتضانها للمواهب الإبداعية، ثم نعرف أنها تحتضن المبدعين في السجون المكتظة بمعارضين افتراضيين لحكومات افتراضية.
سأفترض ان ما اردت قوله قد وصل.

fouad.abu [email protected]