هل سقطت "المراجعات" في مصر؟

تابعت أخبار التفجير الانتحاري في الإسكندرية والذي استهدف كنيسة قبطية، وأودى بحياة العشرات، واستتبع صدامات طائفية، على قنوات إخبارية فرنسية وألمانية، وهما لغتان لا أفهمهما، حيث كنت في اجازتي السنوية. ولكن الصور المعروضة، والصحف الانجليزية في اليوم التالي، أوضحت الصورة. تفجير انتحاري، بعد سنوات طويلة من الهدوء في مصر فيما يتعلق بالمواجهة بين الجهاديين والسلطات المصرية.

اضافة اعلان

معظم التحليلات أعادت هذا الهدوء إلى ما يعرف بـ"مراجعات" الإسلاميين الجهاديين، من خلال نبذ العنف، ومراجعة الأفكار الجهادية السابقة. وقد بدأت المبادرة من قيادات الجماعة الإسلامية في السجون، وهم المتهمون الرئيسيون في اغتيال الرئيس المصري أنور السادات بداية الثمانينيات. وقد وصلت تلك "المراجعات" ذروتها في سلسلة كتبها واحد من أهم منظري الجهاديين، سيد إمام عبدالعزيز الشريف، والمعروف باسم الدكتور فضل، صاحب كتاب "العمدة في إعداد العدة"، والذي طالما عُد الكتاب الحركي للجهاديين.

مهما يكن من أمر فإن تجربة "المراجعات"، إن جاز تسميتها كذلك، عممت في عدد من الأقطار العربية، وقد سجلت نجاحاً جزئياً، ولكنها تستخدم دوماً للتعمية على أسباب أخرى تقف وراء انتشار وسلوك السلفيين-الجهاديين. فبالإضافة إلى الجانب الفكري، هناك جانب سياسي-اجتماعي وراء انتشار الظاهرة.

عندما استهدف السلفيون-الجهاديون في العراق، أو ما يعرف بـ "دولة العراق الإسلامية"، كنيسة النجاة في نهاية تشرين الأول الماضي، ربطوا فعلهم هذا بتهديد أقباط مصر، حول قضية سيدتين تدعي بعض الجماعات المسلمة أنهما محتجزتان لدى الكنيسة القبطية، بعد إسلامهما.

القاعدة في العراق شهدت، ومنذ العام 2007، وبفعل تشكيل "مجالس الصحوات"، تراجعا شديدا ارتبط بفقدانهم الحاضن السني هناك. وعلى حين أن العراق، ووفق معظم أدبيات السلفيين-الجهاديين، عد فرصة ذهبية لمواجهة الأميركيين، ولنقل "الجهاد" لدول الجوار، فإن القاعدة، والقيادات السلفية-الجهادية، دوماً تؤكد على العراق كملاذ آمن للسلفيين-الجهاديين.

وبالتالي، فإن القاعدة في العراق، وللإبقاء على بنيتها، تعمد إلى ربط سلوكها العنيف بأهداف إقليمية ودولية، كمحاولات استهداف النفط، أو ربط عملياتها باستهداف المسيحيين في الخارج.

هدفت "القاعدة" من التهديد باستهداف المسيحيين الأقباط، تحريض السلفيين التقليديين، الذين تزايد نشاطهم مؤخراً بفعل الدعم الذي تلقوه من الحكومة المصرية، لمواجهة الإخوان المسلمين في مصر وتحويلهم للأيديولوجية الجهادية. فعلى رغم رفض السلفيين-التقليديين لأفكار الجهاديين، إلا أن قضية العلاقة الطائفية، تصدى لها السلفيون التقليديون في مصر بحساسية عالية، وبالتالي سعوا الى تعبئتهم وتحريضهم نحو الصدام الطائفي وكان يعد الوسيلة الأنسب لتحقيق هذا الهدف.

وبهذا المعنى، فإن "المراجعات" يبدو أنها باتت تعبر عن حقبة ماضية في تفكير الجهاديين وسلوكهم العنيف. ولعل العنوان الرئيس لحادثة الاسكندرية هو أن مصر، شأنها شأن معظم الدول العربية، تعاني من أزمة بنيوية داخل الدولة، والعلاقة الطائفية كعب أخيل فيها. وبالمقابل، فإن مصر، شأنها شأن الدول العربية أيضاً في تعاملها مع أزماتها البنيوية، لا تريد معالجة الموضوع بل تأجيل معالجة هذه القضية، حتى تصبح حالاً اجتماعياً-سياسياً تستفيد منه الجماعات المسلحة. إن المراقب للحالة المصرية يدرك أنها تقدم نموذجاً لدور الأزمات البنيوية في خلق بيئة خصبة لجماعات العنف، وأن سياسة "التأجيل" تعد بمثابة الرماد الذي يغطي النار. ولعل الأوان قد آن للبحث في تطورات تلك الجماعات، من دون الركون إلى "نجاح المراجعات".

أحسب "المراجعات"، والطروحات الفكرية، لمعالجة ظاهرة انضمام الشبان للجماعات السلفية-الجهادية، لا تأخذ بالحسبان أن تلك الظاهرة هي ظاهرة اجتماعية-سياسية بالدرجة الأولى، وبالتالي فهي ذات طابع متغير متحول غير ثابت، فإن لم تعالج الشروط الاجتماعية-السياسية التي تقف وراء تلك الظاهرة، فإن العنف في المنطقة سيبقى مخيماً ولو بشكل متقطع، كما حدث في مصر.