أنا كل ما قول التوبة..!

كنت أحمل معي مصادفة الهاتف النقال للاعلامي الكبير الراحل وجدي الحكيم مرة في الاسكندرية حين رن الهاتف وظهر على شاشته اسم المتصل (الخال)..  "ألو.. مين"، "ازيك يا وجدي"، "عفوا انا مش وجدي انا هاني البدري اعلامي من الاردن وهاتفه معي".. "أهلاً يا هاني انا خالك عبد الرحمن الابنودي"، " أهلاً يا استاذنا".. "وازاي الاردن يا عم هاني بلدكم جميل وناسها جُمال أوي" بعد المكالمة.. عرفت بعدها الخال...اضافة اعلان
في كل مرة، تعتقد انك عرفته.. تكتشف ان الابنودي لا ينتهي، حالة شديدة التدفق في حب الحياة وفي الحكمة، الاحاسيس والوطنية والحب، الانحياز للمهمشمين، ولمن لا حول لهم ولا صوت..
في كل مرة تستمع فيها للابنودي تكتشف ان عوالم جديدة لم تطأها مخيلتك بين يديك، في خفة الدم وسرعة البديهة والتواضع الذي يلامس الأرض، (الأرض).. اكثر الكلمات تردداً في حديثه..
ذاكرة الخال حال خاصة من الخصوبة والجمال.. حين كاد يسرد البدايات في أبنود بعمق الصعيد واجواء الاسرة المحافظة والاب المأذون وكميات الصور التي التقطتها ذاكرته وطُبعت في مخيلته حتى يوم أول من  أمس حين غادر.. من أبناء قريته البسطاء.. وقصص الحب والحياة واغاني الفقراء وولعه بحوارات الناس ووجوه السيدات في قنا.. وشعراء الصعيد والسيرة الهلالية واغنيات التراث الشعبي..
تشعر بان فيلماً سينمائياً يمر شريط صوره امام عينيك باتقان، وبكافة مؤثراته الصوتية وخلفياته الموسيقية..!
هو الأبنودي الذي لم يكتب الا للناس.. فهم بالنسبة له كانوا، البوصلة وهمومهم زاد شعره ومفرداته، بل ان قصيدة واحدة كان يلقيها الخال امام جمع من اهل قريته او حتى عندما انتقل الى منفاه الاختياري في الاسماعيلية.. كانت تمثل متنفساً لملايين المسحوقين والفقراء الذين لا متنفس لهم..
في الابنودي الذي غادر وهو يحذر ملايين محبيه من مخاطر التدخين الذي اسماه "لعبة حقيرة مارسناها بايدينا فأنهتنا.." قصص لا تنتهي من التسامح والسمو على الصغائر والتواصل حتى مع من أساءوا له..
عرفت الخال ايضا عبر قناة اخرى، كانت صوت الابنودي وحسه الناطق هو محمد منير الذي غنى للشاعر الكبير افضل اغنياته واكثرها عمقاً وقرباً من الناس.
ولانه كان كبيراً.. فقد كان حزنه كبيراً مثله، حين هُزم العرب كتب عدى النهار وكان فرحه كبيراً في اوقات النصر حين حلف "بسماها وترابها".. وكان ابداعه اكبر حين شكل تحولاً تاريخياً في مسيرة عبد الحليم حافظ فاعطاه جرعته الشعبية العميقة في "انا كل ما اقول التوبة" وكان كبيراً حين غادر بهدوء وهو يستذكر "الفجر عمره ما قال لليل.. عن اذنك"..
دون استئذان غادر الخال عشرات الملايين من عشاقه في العالم العربي وهو يردد "قللي الوداع" ويشدد ان الشباب العربي قادر على حل ازماته بالحوار والفكر وحب الوطن.
هو مزيج غريب من الصراحة والغموض ومن التعقيد والبساطة هو السهل الممتنع كما وصفه الكاتب محمد توفيق.. فقد جمع كل الاضداد لكنه انحاز ابدا للطيبة والبساطة وحلاوة الروح والامة العربية المجتمعة على كلمة واحدة.
"اوعوا تنسوني" اخر كلماته للناس.. لم يدرك الابنودي وهو يغادر ان جاذبيته المغناطيسية الطاغية لا بد وان تبقى في وجداننا عبر صوته الهادر وحضوره (الفلاحي) اللافت.. لانه  كما قال هيكل عنه.."شراع على النيل.. جاء مرتحلاً يحمل خصب النهر العظيم ينثره حيث يصل ويحول الطمي بالفن الى زهر وورد.. والى شوك أحياناً".
وداعاً يا خال يا من فاضت "عيون القلب" العربي على فراقك دمعاً وحباً نعرف انه سيبقى كلما سمعنا "آه يا اسمراني اللون .. حبيبي يا اسمراني".