التحولات الأوروبية والدولة الفلسطينية

د.ابراهيم بدران
د.ابراهيم بدران
جاء إعلان اعتراف الدول الأوروبية الثلاث، النرويج وإيرلندا واسبانيا، بالدولة الفلسطينية في وقت فقد الاحتلال الصهيوني توازنه، فسمى الاعتراف بالدولة الفلسطينية هدية لحماس، وسمى المحكمة الدولية التي أصدرت قرارها يوم الجمعة بالوقف الفوري للحرب في رفح محكمة ضد السامية(ضد إسرائيل)، ولأنه لم يحقق أيا من أهدافه التي أعلنها في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، ولم ينجح في تضليل العالم، انطلق، وعلى مدى 280 يوما، تحت الغطاء الأميركي المنافق في أبشع صورة استعمارية في التاريخ الحديث، في ارتكاب المجازر الجماعية وتدمير البنية التحتية والمباني السكنية والمدارس والمستشفيات اضافة اعلان
ودور العبادة والمرافق الحيوية في كل بقعة في قطاع غزة، وبصورة مصغرة في جنين وغيرها في الضفة الغربية. لقد ترافق إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية مع أحداث ثلاثة لها أهميتها الأول: صدور تقرير المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية الذي يشير إلى ملاحقة نتنياهو وغالانت بصفتهما مرتكبي جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. والثاني: قرار الأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطينية كاملة العضوية حيث صوتت بنعم (143) دولة. والثالث: استمرار وتصاعد الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية في الجامعات الأميركية والأوروبية والأسترالية والتي تطالب بالحرية لفلسطين والوقف الفوري للحرب الهجمية الإسرائيلية في غزة.
وخلال العقود الماضية وخاصة بعد رحيل شخصيات قيادية أمثال ديغول تدحرجت أوروبا لتسير وراء الولايات المتحدة معصوبة العينين وبانقياد كامل وخاصة في أي أمر له علاقة بالكيان الصهيوني أو ضرب دولة عربية. وتدريجيا أخذت الأحداث تثبت للأوروبيين أن المصالح الأوروبية والمصالح الأميركية ليست بالضرورة متوافقة أو بنفس الاتجاه وإنما هو إنقياد تحت مظلة حلف الناتو.
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتثبت ذلك، فأنهكت السياسة الأميركية تجاه الحرب الاقتصادات الأوروبية ورفعت أسعار الطاقة فيها، بعد أن كانت علاقة أوروبا مع روسيا في أفضل حال. من جانب آخر فإن استمرار احتلال إسرائيل للاراضي الفلسطينية وأراض سورية ولبنانية، ومساهمتها غير المعلنة في تفكيك العراق  وليبيا وتدمير سورية، والسياسة العنصرية التي تنتهجها بهدف تهجير الفلسطينيين والسيطرة على فلسطين كاملة وعلى مقدرات الدول العربية المجاورة والخليجية، هذه السياسة وضعت المنطقة في حالة من عدم الاستقرار المزمن الذي انعكس سلبا على أوروبا اقتصاديا وديموغرافيا وسياسيا على الرغم من أن الأردن كان ينبه ويحذر العالم من خطورة الموقف. إضافة إلى استمرار حالة الابتزاز التي تمارسها إسرائيل تجاه أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بعد أن روجت في الإعلام مقولة أن كل انتقاد لإسرائيل أو الصهيونية هو عداء للسامية ولليهود.
وهكذ بدأ تحول بطيء في الرؤية الأوروبية لإشكالية استقرار المنطقة وللصراع الإسرائيلي الفلسطيني العربي وأهمية القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة على ترابهم الوطني، و"هذا ليس هدية لحماس أو الإرهاب" كما رد بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي على تصريح نتنياهو. واستأنفت جميع هذه الدول تمويلها للأونروا خلافاً لما تريده اسرائيل والولايات المتحدة. وقد كان للسويد دور إيجابي بارز في هذا الشأن.
ومع أنه من المتوقع ان يتبع اعتراف النرويج وإيرلندا وأسبانيا بالدولة الفلسطينية اعترافات مشابهة من دول أوروبية أخرى إلا أن إسرائيل وحاضنتها الولايات المتحدة الأميركية تبذلان شتى الجهود وتمارسان مختلف الضغوط على دول الاتحاد الأوروبي لكي تتجاهل الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وراح نتنياهو يروج أكذوبة أن الاعتراف هو مكافأة للإرهاب وأن الدولة الفلسطينية إذا قامت ستكرر ما حدث في 7 تشرين الأول. 
وهنا لا بد من التأكيد على مسائل مهمة في مقدمتها: أولا: ان التحّول في الموقف الأوروبي حتى يستكمل دوره يتطلب جهوداً  عربية وفلسطينية مكثفة على الصعيدين الدبلوماسي والسياسي والشعبي، وعلى غرار الجهود التي يبذلها الأردن في هذا الاتجاه،  والزيارات والاتصالات المباشرة التي يقوم بها الملك عبدالله الثاني مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة. ثانياً: على الإعلام العربي أن يتصدى للأكاذيب التي يطلقها الكيان الصهيوني إزاء الأحداث وأن يستعين بإعلام دول صديقة لنشر الرؤية العربية الفلسسطينية عالميا على اوسع نطاق. ثالثا: على الجامعات العربية واتحاد الجامعات العربية واتحادات الطلبة فيها أن تتواصل مع الجامعات الأجنبية  وطلبتها وتزودها بالمعلومات والحقائق الموثقة حتى تحافظ تلك الجامعات وطلبتها على زخم احتجاجاتها ونصرتها للحقوق الفلسطينية. رابعاً: كذلك فإن منظمات المجتمع المدني العربية. 
وخاصة اتحاد الحقوقيين واتحاد البرلمانيين العرب أن تتواصل مع نظيراتها في أوروبا لتعزز من توجه الدول للاعتراف بدولة فلسطين والعمل على قيامها. خامسا: إن المقاومة وتضحيات الفلسطينيين في كل بقعة من الأرض الفلسطينية وصمودهم في أرضهم يستحق إصلاحا جذريا سريعا في السلطة الوطنية الفلسطينية، وجهودا صادقة من الدول العربية لدعم الصمود ماديا وسياسيا ودوليا.
ويتطلب الضغط على الولايات المتحدة بكل الوسائل وهي كثيرة. سادسا: إن تمكين إسرائيل من الانتصار في حربها الاستعمارية ضد غزة والضفة الغربية بعد احتلالها معبر رفح سيكون بداية لمرحلة توسع إسرائيلي خطيرة في الأراضي السورية واللبنانية والمصرية. ومن هنا فالتحرك اليوم لنصرة فلسطين يمثل حماية للدول العربية وأقل كلفة من التحرك المتأخر.
وأخيراً فإن التغير في الموقف الأوروبي لصالح الحق الفلسطيني مسيرة ليست قصيرة ولا مجرد تصريح هنا أو هناك. كما أن البناء على قرارات محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية تتطلب مبادرات عربية على غرار جنوب أفريقيا، وتتطلب الدعم والمثابرة من الجانب العربي والدول الصديقة فالطريق ما يزال طويلاً ولكن مستقبل العالم قابل للتغيير.