ماذا سيحدث بعد الحرب؟

هارولد جيمس
هارولد جيمس
هارولد جيمس برينستون ـ لقد آن الأوان للتفكير في تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا. إن تحديد مستقبل ما بعد انتهاء الصراع يُشكل ضرورة أساسية ليس فقط لضحايا روسيا الأوكرانيين، بل وأيضًا لأوروبا والعالم. ومع ذلك، على الرغم من الحاجة الملحة إلى ضمان عدم تشابه النصف الأول من هذا القرن مع النصف الأول من القرن الماضي، فإن المناقشات حول هذه المسألة محدودة للغاية. تُشير الحرب العدوانية التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نحو مخيف إلى الصراع الذي دمر أوروبا بعد عام 1914. فقد مهدت الحرب العالمية الأولى - الحرب العظمى- الطريق لحدوث كوارث لاحقة. فقد بدأت أيضًا كحرب راهنَ فيها المعتدي على تحقيق انتصار سريع، وتطورت إلى صراع أوسع نطاقًا حاول فيه كل طرف تقويض القدرة القتالية والاستقرار السياسي للطرف الآخر. وبحلول الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر)، كان من الواضح أن بوتين أخطأ في تقديره حين افترض أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سوف يتعبان من الصراع ويمارسان الضغوط على أوكرانيا لحملها على قبول تسوية سلمية مُهينة. لقد أتت اللحظة الحرجة حين تبين أن انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة لم تكن بمثابة ضربة مُوجهة للرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطي. وبعد ذلك مباشرة، انسحبت روسيا أخيرًا من مدينة خيرسون ومارست ضغوطًا لتنفيذ إستراتيجية جديدة تقضي بفرض أكبر قدر ممكن من البؤس والدمار على المدنيين الأوكرانيين. لقد نجح التحالف الغربي في الحفاظ على وحدته بشكل ملحوظ. ومع ذلك، سيأتي الاختبار الكبير التالي عندما تنتهي الحرب. عندما يخوض الجميع صراعًا وجوديًا، فإنهم يُدركون أن هناك حاجة إلى تدابير الأزمة، وأن الحد من الالتزام ببعض قواعد الميزانية يمكن أن يؤدي إلى كارثة. لكن في نهاية المطاف، يجب أن تنتهي حالة الاستثناء، وهنا يأتي دور الخيارات الحقيقية. إذا ارتبطت العودة إلى نظام قائم على القواعد بالبؤس الاقتصادي - كما حدث في عام 1920 - فسوف يبوء بالفشل. من المؤكد أنه تم تنظيم بعض المؤتمرات الدولية رفيعة المستوى (في برلين ولوغانو) لمناقشة إطار التعامل مع عملية إعادة البناء في أوكرانيا، وقد ركزت هذه المناقشات بشكل حاسم على احتياجات أوكرانيا: حجم التمويل المطلوب، وأنواع الضوابط التي ينبغي فرضها لمكافحة الفساد، وكيفية استخدام المراقبة الذاتية لتعزيز الديمقراطية الأوكرانية. ومع ذلك، تم تجاهل عنصر مهم إلى حد كبير. تمامًا كما كانت خطة مارشال لعام 1948 تستهدف جمهورًا أمريكيًا وأوروبيًا، فإن تعزيز الديمقراطية واستعادة الشعور بالهدف السياسي مطلوبان في أوروبا بنفس قدر الحاجة إليهما في أوكرانيا. ومرة أخرى، تُقدم الاختلافات بين التسويات في مرحلتي ما بعد الحرب العالمية الأولى وما بعد الحرب العالمية الثانية دروسًا ذات صلة. فقد خسر الحلفاء السلام بعد الحرب العالمية الأولى لأنهم فشلوا في التفكير عالميًا حول كيفية التوفيق بين إعادة إعمار بلجيكا وفرنسا - حيث حدث الجزء الأكبر من الدمار المادي - مع إعادة إدماج ألمانيا المهزومة. في ظاهر الأمر، من المنطقي القول بأن روسيا - أو على الأقل أنصار حكومة الأقلية الأثرياء في دائرة بوتين - يجب أن تتحمل معظم تكاليف إعادة بناء أوكرانيا. لكن هذه النتيجة لن تكون خطوة مُجدية طالما ظل بوتين في السلطة، وإذا تم فرض مثل هذه العقوبات المالية الهائلة على روسيا في مرحلة ما بعد رحيل بوتين، فإننا سنخاطر بتكرار سيناريو ما بعد الحرب العالمية الأولى. لقد واجه أنصار الديمقراطية الألمانية خيارًا مستحيلًا في عام 1919. فقد كانوا مُلزمين بالتوقيع على معاهدة سلام يتحملون فيها الالتزامات المالية المترتبة على الصراع الذي شنه القيصر فيلهلم الثاني. ونتيجة لذلك، واجهت جمهورية فايمار التي لم تدم طويلاً انتقادات مستمرة بأنها بيعت إلى الغرب. إن المسار الأفضل هو ذلك الذي اتخذته خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. لن تنجح عملية إعادة البناء في أوكرانيا إلا إذا تم تصورها من منظور عالمي. وبدلاً من تقديم حل للمشكلة الأوكرانية على وجه التحديد، يتعين على المجتمع الدولي جعل عملية إعادة بناء أوكرانيا جزءًا من جهد أوسع نطاقًا. بعد كل شيء، هناك حاجة أيضًا إلى إعادة الإعمار بعد الصراع في سورية والعراق والسودان وأماكن أخرى من العالم. وعلى نفس القدر من الأهمية، يجب تشجيع القوى المهزومة على إدراك بأنها كانت في السابق على المسار الخطأ. وهذا ما حدث في ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وبمجرد تفكيك آلية النظام الاستبدادي، استفادت كل من هذه البلدان من ازدهار الليبرالية السياسية والاقتصادية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. تتمثل إحدى أكبر التحديات التي تواجه أوكرانيا اليوم في أنها نمت ببطء شديد منذ التسعينيات، حيث أصبحت متخلفة أكثر فأكثر عن جارتها المجاورة، بولندا. وعلى غرار روسيا، اعتمدت بولندا على نموذج اقتصادي لتصدير السلع الأساسية بلغ الآن حده الأقصى. ينطبق ذلك على دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، ولهذا السبب كانت كازاخستان تبحث منذ فترة طويلة عن مسار جديد للتنمية ما بعد النفط والغاز. هل من المبالغة الأمل في أن تسعى روسيا أيضًا إلى الهروب من لعنة مواردها الطبيعية، والتي دعمت سياسات واقتصاديات نظام بوتين؟ من المحتمل أن تصبح روسيا الجديدة هذه مصدر إلهام للعديد من البلدان الأخرى في مختلف العالم. أما بالنسبة لأوكرانيا، فمن الواضح أن ديناميكيتها في مرحلة ما بعد الحرب ستعتمد على استعادة المخزون السكني في البلاد، وإمدادات الطاقة، والمستشفيات، والمدارس، وغيرها من مشاريع البنية التحتية. لكنها ستعتمد أيضًا على ما إذا كان بإمكانها التخلي عن الاعتماد على استخراج الموارد الطبيعية. ومن حسن الحظ أن العديد من نقاط القوة نفسها التي استندت إليها أوكرانيا في الدفاع عن نفسها على نحو مذهل سوف تفيد أيضا انتعاشها الاقتصادي. ونظرًا لأن كييف كانت بالفعل مركزًا لتطوير البرمجيات قبل الحرب، كان المُبرمجون الأوكرانيون على أتم الاستعداد للقضاء على التهديدات الإلكترونية الروسية. وهذه هي على وجه التحديد المهارات والقدرات التي ستكون مطلوبة لبناء اقتصاد حديث يشتمل على الخدمات الأساسية الرقمية، فضلاً عن عناصر أساسية من الإلكترونيات والذكاء الاصطناعي. بعد الأزمة الأولية الناتجة عن اندلاع جائحة فيروس كوفيد 19، تبنت العديد من الحكومات شعار “إعادة البناء بشكل أفضل”. بعد الحرب في أوكرانيا، يجب علينا إعادة البناء بشكل أفضل على الصعيد العالمي. ويعتمد ظهور نظام دولي جديد أكثر استقرارًا على تحقيق هذا الهدف. *هارولد جيمس هو أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، ومؤلف كتاب “حرب الكلمات: مسرد العولمة” (مطبعة جامعة ييل، 2021). حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت. اقرأ أيضا في ترجمات:
اضافة اعلان