زهران زهران..!

لا أعرف كثيراً عن العالم الداخلي لزهران زهران، زميلي المصور في "الغد"، الذي التحق بالرفيق الأعلى أمس. كنّا نلتقي في ممرات الصحيفة، ونتبادل تحيّة موجزة مثلما يحدث مع الزملاء الذين يعملون في مكان واحد، ولا يجمعهما العمل أو الصدفة في مشروع مشترك. لكنّه صادف أنني عرفتُ شيئاً شخصياً جداً عن زهران قبل بضعة شهور. يومها، سمعته يتحدّث في كفتيريا الصحيفة إلى جميع الموجودين، بلا همس وكأنه يقول شيئاً عادياً تماماً، عن اكتشافه إصابته بالسرطان. وقد تعجّبتُ في البداية من إعلانه الخبر بهذه الطريقة، وبلهجة لا تستجدي التعاطف. وكان الآخرون يسألونه، وهو يجيب بتفاؤل الواثق بأنّ العلاج يمكن كثيراً أن ينفع. ولم أجد رغبة في المشاركة في الحديث، ولا قول كلمات معزيّة. أولاّ، لأنني صادفت شيئاً من هذا القَبيل مع صديق راحل آخر؛ وثانياً، لأنّ أيّ كلمات تشجيع كانت ستفسد فحسب طريقته الشجاعة جداً في الحديث عن حالته. وقد آثرت الانسحاب من المكان.اضافة اعلان
بعد ذلك بفترة، رأيت زهران في أروقة الصحيفة وهو يستند إلى عصا، ويتحدث مع أحد ما عن واجبات وظيفية ومهمات تصوير، وتعمدتُ أيضاً أن أتبادل معه نفس التحيّة الموجزة، ولم أجد معنى في السؤال الفائض عن صحته. وبعدها تطوع لتصويره خلال جلسة علاج كيميائي لاستخدام صوره في مادة عن مواطنينا الذين يستشفون من هذا المرض، وتضارب ذلك مرة أخرى مع ما كنت أعتقده من أن أحداً لا يرغب في كشف نفسه في لحظة الصراع مع شيء قاهر وقوي بهذا الوضوح. ربّما كانت محبّة المصوّر المحترف للصورة بإطلاقها! ثمّ غاب زهران عن الصحيفة، وأصبح الزملاء يقولون إن العلاج يؤثر على صحته ويتعبه. وأمس الخميس، تناقلوا خبر وفاته بطريقة تشبه الهمس، وليس على طريقته عالية الصوت في إعلان حالته.
المصوّرون لا أحد يكتب عنهم، مثلما يكتبون عن الشعراء والروائيين. ولا أحد يعدُّ لهم مناسبات التأبين، ولو أنّ عمل الإعلام كلّه سيصبح ناقصاً كثيراً من دونهم، ومع أنّهم يخاطرون أكثر من الجميع بالتواجد في وسط البقعة الساخنة، وكثيراً ما يستشهدون. وفي الحياة العادية، لا يستفتيهم أحدٌ في الحديث عن الأخبار، لأنّ الطريقة التي يرون فيها الحياة ويعيدون عرضها ليست الكلمات. وربّما أيضاً لا ينتبه الكثيرون لموتهم. أما بالنسبة إليهم، في اللحظات النهائية، فإنّ الموت يضعهم مع الجميع على قدم المساواة أمام حقيقة الموت نفسها، بلا زوائد وتفاصيل. وبشكل ما، يصبح ضحايا الصراعات مع الأمراض القاهرة أيضاً متساوين في خبرة العيش مع موت مُعلن وغير مفاجئ.
رحيل زهران، والكثيرين الذين يغادروننا يومياً على طريقته، يفتح الأسئلة عن المئات، وربّما الآلاف الذين يعيشون بيننا وهم يعانون الخبرة التي يصعب تصورها من الصراع المفتوح الموجع؛ صراع يعلمهم فيه عدو مطلق القدرة وغير قابل للهزيمة بأنّه بدأ معهم الاشتباك، بدل أن يأخذهم على حين غرة فيريحهم مثل الآخرين؛ صراع فردي جداً، يخوضه المرء وحده ولا يستطيع أن يُجيش فيه أحداً. بماذا يشعرون؟ ماذا يريدوننا أن نقول لهم؟ هل نشجعهم، من على الخطوط الجانبية ومن المدرجات؟ هل يحبّون أنْ نقول لهم كم نحن متعاطفون، هل ندّعي تجاهلهم حتى لا نشعرهم بأنهم أعلى من أن يكونوا موضوعاً للشفقة؟ كلّ يوم نسمع أرقاماً مذهلة عن الذين يصارعون في بلدنا "ذلك المرض" الذي لا نحبّ ذكره باسمه. لكنّ المرء يفكّر بشيء غير فظاعة الأرقام عندما يواجه أحد المصابين مباشرة، وتصبح المشكلة أكثر حقيقية.
لا أستطيع التفكير الآن بشيء يمكن أن يُساعد. ربّما نحتاج أن لا نهرب من المكان عندما يذكر أحد السرطان الذي لا يغيّر حقيقته ذكره باللقب دون الاسم. وقد يكون ملائماً أن لا ندير وجوهنا عندما نمرّ بجوار مراكز معالجته، ونقوم بزيارة لمعرفة ما يحدث هناك؛ كيف يشعر الأهل والمرضى وكيف يمكن المساعدة بشيء. ولا أعرف إذا كان مناسباً لو أنني قلت شيئاً لزهران في ذلك اليوم في كفتيريا الصحيفة، لكنّه أحبّ أنْ يراه الآخرون قويّاً وراوغ الألم بالأمل. هكذا أتذكر زهران..

[email protected]