في تفسير بعض الركود

وأقصد ببعض الركود ما نشاهده في البقالات والدكاكين المنتشرة في الشوارع والأحياء وبين البيوت، من تراجع في الحركة أو البيع وإقفال مضطرد. لقد نشأت تلك البقالات والدكاكين مع الشوارع والأحياء ورافقتها. فكانت الواسطة أو الوسيلة بين المنتج أو تاجر الجملة، والأسرة أو المنزل فهما قرب الباب. وكان الجميع راضين بذلك، وبخاصة أن العلاقة ليست بيعا وشراء فقط، وإنما اجتماعية ومجتمعية أيضا، ولكنها كانت – عموماً – مقصورة على الرجال. ظل هذا الوضع قائماً في الأردن، وفي عمان بخاصة حتى نهاية القرن العشرين، حين أخذ يتغير ويتبدل بعد ذلك بالانقلاب الكبير في الأسلوب الذي أحدثته الأسواق والمولات وامتلاك جملة الناس لسيارة خاصة. وهكذا نشأ نظام جديد من العلاقة بين الناس والسوق والمول، فقد حل التسوق محل الشراء، والمفاصلة، والمجاملة، والحديث، والمركزية بالسوق أو المول في التبضع، محل اللامركزية بالبقالة والدكان، والسعر المحدود محل المساومة، والعربة محل الحضن واليدين، أو السلة، أو "صبي" البقالة. كما صارت المرأة وأفراد الأسرة مرئية في الوضع الجديد، وتحول الإنسان من عضوي أو أولي إلى مستهلك أو ثانوي بعدما حلّت السلعة - بالدعاية والإعلان والعروض المثيرة - محل الحاجة وليس العكس كما كان عليه الأمر في الماضي. إنه عالم جديد تماماً يبدو للناس في البلدان المتخلفة والنامية أنهم به مناظرون للناس في البلدان المتقدمة. أي وكان الواحد منهم وهو يدفع العربة ويختار الصنف والسعر ويقف في الصف ويدفع بالبطاقة الائتمانية يرى نفسه مثل أي أميركي أو أوروبي. ومما زاد في جاذبية السوق المركزي، الفرق الكبير في السعر للسلعة بين السوق والبقالة أو الدكان، فالسوق يحصل على خصم كبير في السعر من المنتج أو تاجر الجملة على الكمية لا تستطيع البقالة أو الدكان أن تحصل على مثله، فسعر علبة الفول مثلاً في السوق قد تكون أربعين قرشاً ، بينما سعرها نفسها في البقالة أو الدكان ستون قرشاً أو أكثر، وهكذا. فما بالك إذا كانت الأسواق تستطيع – من آن إلى آخر - تقديم عروض متدنية السعر لا تستطيع البقالة أو الدكان تقديم مثلها. وبما أنه لا صداقة دائمة بين البائع والمشتري حتى وإن كانوا إخوة، فإن المشتري يهرع نحو السعر الأقل للسلعة والخدمة نفسها أياً كان البائع. غير منتبه لكلفة الطريق من البنزين التي يجب أن تضاف إلى كلفة المشتريات للمقارنة والاختيار. والحقيقة النفسية هنا أنه بينما يذهب الناس إلى السوق وفي ذهنهم شراء سلعة معينة منه، إلا أن دافعية التسوق وجاذبية العرض والعروض والتظاهر الاستهلاكي تجعلهم يشترون المزيد مما لم يفكروا فيه مسبقاً. هذا عدا عن جاذبية السوق والمول في الاختلاط وكثرة المعروض وتنوعه، وفي الخدمات المرافقة من مقاه ومطاعم وألعاب للأطفال ولقاءات المصادفة... بين المعارف والأصدقاء والمحبين. مما يشكل نوعاً من الترويح أو السياحة الإجتماعية المحلية العابرة للأسرة والمجتمع. كل هذا وذاك يفسر تقهقر البقالات والدكاكين وتواتر إغلاقها ونسبة ذلك خطأ إلى الركود فقط. وهو تفسير خاطئ جزئياً، لأن من ينسبونه إلى الركود فقط لا ينتبهون إلى دور الأسواق والمولات فيهما التي تعج يومياً بالمتسوقين. وبكلمات أخرى، أنه لو كان الاقتصاد في أوج ازدهاره فإن هذا التطور في الأسلوب الذي جلبته الأسواق والمولات أو الاقتصاد الحديث سيؤدي إلى النتيجة نفسها، وهي انعكاس للنظام الرأسمالي الذي لا يشبع من تركيز الأعمال والأموال والوسائل والغايات في أيدٍ قليلة. يضاف إلى ذلك الركود الناتج عن سوء التقدير المروري في وسط العاصمة الذي يمنع وقوف السيارات على جانبي الشارع للتسوق. في الغابة يأكل القوي الضعيف وفي البحار والمحيطات يبتلع الكبير الصغير. وفي النظام الرأسمالي يبتلع السوق البقالة والدكان. لو أن الاقتصاد الأردني إنتاجي لا خدماتي لرأينا صناعات جديدة تنشأ وفرص عمل كثيرة تظهر تمتص العمالة الفاقدة لمصادر رزقها في النظام الاقتصادي البائد.اضافة اعلان