قراءة أفلاطون في زمن الأوليغارشيين

تمثال للفيلسوف الإغريقي أفلاطون - (أرشيفية)
تمثال للفيلسوف الإغريقي أفلاطون - (أرشيفية)

م. جي. بييتي – (كاونتربنتش) 16/11/2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

يعاني أفلاطون من سمعة سيئة في العديد من الدوائر، لأن عمله الأكثر شهرة، "الجمهورية"، يبدو وكأنه يدافع عن كل أنواع الأفكار التي لا يستسيغها معظم القراء المعاصرين؛ أفكار من نوع أن الناس يجب أن يكونوا محميين من الحقيقة، وأن الرقابة واسعة النطاق، بل وحتى قيام الحكومات بالنشر المتعمد للمعلومات الخاطئة والمضللة، هي أشياء يمكن الدفاع عنها كوسيلة لضمان الحفاظ على النظام في المجتمع. ومع ذلك، أعتقد، كما كنت قد قلت في أماكن أخرى، أن مثل هذه النظرة إلى أفلاطون خاطئة. اضافة اعلان
يوجد الكثير من الحديث هذه الأيام عن القيمة الإيجابية لتعليم الأدبيات الليبرالية. ولا يمكن أن أتفق مع شيء أكثر من هذا. وثمة الكثير الذي يمكن أن نتعلمه، على سبيل المثال، من "جمهورية" أفلاطون. وعلى الرغم من حقيقة أنه يسيء إلى ما يسميه "ديمقراطية"، فإن الديمقراطية التي يصفها ليست هي التي أعتقد أنها ستكون قابلة للتمييز بهذه الصفة بالنسبة لأي مفكر تنويري. لكن الأكثر أهمية، لغايات التأملات الراهنة، هو أن "الجمهورية" يتخذ وجهة نظر قاتمة تقريباً من المجتمعات التي تقدر المال فوق كل شيء آخر. ويشار إلى هذه المجتمعات بشكل عام بأنها "بلوتوقراطيات"، والتي تعني حرفياً "حكومة الأغنياء". ومع ذلك، من الملفت أن أفلاطون يسميها "أوليغاركيات"، التي تعني "حكم القلة"، لأنه يعتقد أن المطاف سينتهي حتماً بالمجتمعات التي تقدر المال فوق كل شيء آخر إلى تركيز الثروة في أيدي عدد صغير جداً من الناس.
أحب تدريس "الجمهورية" للعديد من الأسباب. إنه كتاب جميل ومؤثر للغاية. ومع ذلك، فإن أحد الأشياء التي تجعله سبباً في إثارة هذه البهجة لدى التدريس، هو الكيفية التي يُشرك بها الطلبة. والمدينة التي يركز عليها الكتاب هي ما يسميه سقراط "أرستقراطية"، "حكومة أفضل الأفراد". وحتى هذه المدينة، كما يعترف في الكتاب الثامن، سوف تخضع حتماً لعملية انحلال إلى سلسلة من الدول التي  تزداد انحطاطاً باطراد، أولاً إلى "تيموقراطية"، أو "حكومة يكون فيها حب الشرف هو المبدأ الحاكم"، ثم إلى "أوليغارشية"، التي تثمِّن المال فوق كل شيء آخر، ومن هناك إلى "ديمقراطية"، التي لا تقدِّر أي شيء على الإطلاق، وفقاً لسقراط، سوى التحرر من القيود؛ ثم أخيراً، إلى "طغيان".
لا يحتاج الطلاب إلى إرشاد حول أين يضعون الولايات المتحدة في هذا المسار المحزن للانحطاط السياسي. إنهم يتوقفون عند الأوليغارشية كل مرة، على الرغم من حقيقة أن معظمهم قد تربوا على التفكير بالولايات المتحدة كديمقراطية. ولا شك أن الشباب أكثر ذكاء بكثير مما نميل إلى منحهم الفضل فيه، ولديهم القليل من التسامح تجاه الناس الذين يقدّرون المال فوق كل شيء آخر.
في الآونة الأخيرة، حققت اكتشافا مهما مؤخراً يتصل بهذه القضية، بفضل أحد طلابي. ويتعلق الأمر بمشكلة تظهر في العديد من ترجمات كتاب "الجمهورية"، بما في ذلك ترجمة ألان بلوم، التي يعتبرها الكثير من الباحثين الأفضل.
ثمة نوع من الشخصية، كما يؤكد سقراط، والتي تستجيب لكل نوع من النظام السياسي. وتبدو الشخصية الأوليغارشية، أي الشخصية التي تثمن المال فوق كل شيء آخر، عادلة. لكن صاحب هذه الشخصية ليس عادلا حقا، مع ذلك، وفقاً لسقراط. إنه يحتاج ببساطة إلى تكوين سمعة لنفسه كشخص عادل لغايات العلاقات التعاقدية، لكنه يفعل ذلك، كما يفسر سقراط، عن طريق كبح رغباته السيئة بالقوة، وهي الموجودة هناك، باستعمال جزء لائق من نفسه. إنه لا يكبح هذه الرغبات عن طريق إقناعها بأن من الأفضل أن لا تكون موجودة، ولا عن طريق ترويضها بالحجة، وإنما يضبطها بالضرورة والخوف.
لاحظ أحد طلبتي أنه لم يكن من الغريب أن يقول سقراط أن الرجل الأوليغارشي يكبح رغباته السيئة بواسطة جزء "لائق" من نفسه، لكنه على الرغم من ذلك ليس عادلاً حقاً، وإنما يتظاهر بأنه عادل. وأراد الطالب أن يعرف ما هو المصطلح الإغريقي الذي تُرجم إلى "لائق".
بحثت عن الكلمة في المعاجم. وكان التعبير الذي يستخدمه أفلاطون في المقالة حيث يتحدث سقراط عن كيف أن الرجل الأوليغارشي يكبح رغباته "بجزء لائق ما من نفسه" هو ἐπιεικεῖτινὶ έαυτοῦ. والمصطلح ذو الصلة هو ἐπιεικεῖ. وهو يعني "ملائم"، "مناظر"، أو "مناسب"، وفقاً لأحد المعاجم المعيارية لترجمة الإغريقية القديمة إلى إنجليزية معاصرة. وهو متصل بمصطلح يعني "المعقولية"، "الإنصاف"، أو "المساواة". وفي ترجمة باول شوري لكتاب "الجمهورية" يترجم هذه الفقرة على نحو: "هو، بنوع من عنصر أفضل في نفسه، يكبح بالقوة الرغبات الأخرى الشريرة التي في داخله".
مع ذلك، كان طالبي محقاً في الإشارة إلى أن هناك مشكلة في وصف ذلك الجزء من الإنسان الأوليغارشي الذي يكبح رغباته السيئة بأنه "لائق". فلا "الجزء اللائق من نفسه" عند بلوم، ولا "العنصر الأفضل في نفسه" عند شوري تتناغم جيداً مع النقطة التي يطرحها سقراط في الفقرة، لأن الأوليغارشي لا يحاول أن يكون جيداً. إنه ليس فاضلاً بشكل أصيل، وإنما يبدو فقط في مظهر الفاضل. إنه يكبح رغباته الشريرة، وفقاً لسقراط، بسبب "الخوف"، وليس لأنه يريد أن يكون خيّراً، وإنما لأنه خائف من أنه لو استسلم لتلك الرغبات، فإنه سينال سمعة سيئة بحيث لا يريد أحد أن يجري الأعمال معه. إنه ليس أي جزء "لائق"، ولا "عنصر أفضل" من نفسه إذن هو الذي يكبح رغباته الشريرة.
يبدو الأمر كما لو شوري كان مدركاً لحقيقة أنه ليس أي شيء "لائق" في الرجل الأوليغارشي هو الذي يكبح في الحقيقة "رغباته السيئة"، لأن لديه ملاحظة يكتب فيها أن " ἐπιεικεῖ هنا تستخدم بشكل مام، وليس بمعناها الخاص من تلك ‘المعقولية الحلوة".
يبدو أن كلمة ἐπιεικεῖ قد استخدمت هنا بالمعنى التحوطي المحض لـ"الملاءمة". بمعنى أن ما يكبح "الرغبات السيئة" في الرجل الأوليغارشي هو أي شيء فيه، والذي يكون في الحقيقة "قادراً" على فعل ذلك. إنه ليس نوعاً من الجزء الجدير بالثناء من ذاته. وإذن، لماذا اختار عدد كبير جداً من المفكرين أن يترجموها بمصطلحات لها دلالات أخلاقية ومعنوية إيجابية؟ لا شك أن هذه الترجمات تجعل الفقرة أصعب على الفهم.
تستخدم ترجمة بنيامين جويت، كما أشار طالب آخر عبارة "الفضيلة الإجبارية"، حيث استخدم بلوم "جزء لائق من نفسه"، وهذه بالتأكيد أفضل من أي من ترجمتي بلوم أو شوري. ومع ذلك، فإن أفضل ترجمة وجدتها لهذه الفقرة هي، كما أعتقد، ترجمة جو ساكس. ويترجم ساكس عبارة ἐπιεικεῖτινὶ έαυτοῦ على نحو "كابح شبه لائق في نفسه". والنعت "شبه" هنا مهم لأنه يجعل من الواضح، كما لا يفعل أي مترجم آخر، أن الكابح الذي يمارسه الرجل الأوليغارشي على نفسه "يبدو" فقط أنه "لائق".
لم أستخدم ترجمة ساكس للتدريس من قبل، لكنني أفكر في استخدامها في المرة التالية التي أدرِّس فيها كتاب "الجمهورية". وربما لا تكون أفضل من الترجمات الأخرى إذا أُخِذت ككل، لكنها تبدو بالتأكيد بإلقاء نظرة عليها عن كثب.
من المغوي التفكير في أن الأعمال التي تُرجمت مسبقاً عدة مرات ربما لا تحتاج إلى ترجمتها مرة أخرى. ومع ذلك، ليست هناك ترجمة تتسم بالكمال أبداً في الحقيقة. إن اللغة تتغير مع الوقت، كما أن للمترجمين انحيازاتهم الخاصة. وهي لذلك فكرة حسنة أن تعاد ترجمة الأعمال المهمة في فترات منتظمة، فقط للتأكد من أن لغة الترجمة تتماشى مع الاستخدام المعاصر، وأن أي انحياز ربما يكون قد خالط المترجمين السابقين يمكن تصحيحه.
من الواضح أن "جمهورية" أفلاطون يستحق أن تعاد ترجمته مرات ومرات. هناك قدر هائل من الحكمة فيه، بما في ذلك استبصارات في الإفلاس الأخلاقي، على المستويين الفردي والجمعي، الذي ينطوي عليه اتجاه تثمين المال فوق كل شيء آخر.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Reading Plato in the Time of the Oligarchs