الانحراف الكبير!

على مدى خمسة وسبعين عاما بكل ما شهدتها المنطقة من حروب وهدن واتفاقيات سلام، كانت النظرية الثابتة تقوم على فرض وجود الكيان الصهيوني كأمر واقع ، لا مفر من القبول به، والتعايش مع وجوده بما يملكه من قوة عسكرية، ودعم بلا حدود من المعسكر الغربي، يصل حد التدخل المباشر في كل مرة يتعرض فيه أمن ذلك الكيان للخطر!

اضافة اعلان


بعد نكسة حزيران عام 1967 أصبحت تلك النظرية إلى حد بعيد قابلة للتصديق، وعقب حرب أكتوبرعام 1973 وما تبعها من خطوات لتثبيت حالة من توازن القوة بدأت تتحول تلك النظرية إلى إجراءات على الأرض، وصولا إلى اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وفي أعقاب عملية عاصفة الصحراء التي أنهت احتلال العراق للكويت انعقد مؤتمر مدريد للسلام لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي، من خلال المفاوضات المباشرة مع الأطراف الرئيسية في النزاع، بما فيها الطرف الفلسطيني الذي وجد طريقه نحو أوسلو بعد أن قبلت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار مجلس الأمن الدولي 242، وتم الاعتراف بإسرائيل كأمر واقع على حدود الرابع من حزيران عام 67، فتجسدت بذلك تلك النظرية قولا وعملا!


كل ما جرى بعد ذلك منذ مرحلة غزة أريحا أولا، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية، وقطاع غزة كان ترجمة عملية لنظرية وجود إسرائيل كأمر واقع مفروض بمنطق القوة والمساندة الغربية، والقبول الدولي بطبيعة الحال، وكانت إسرائيل تحظى بالمزيد من المكاسب كلما أظهرت استعدادها لاستئناف مفاوضات السلام حتى من دون نتائج ملموسة ولو في حد أدناها!


في لحظة الاختبار الحقيقي لمفهوم السلام الدائم لدى إسرائيل من خلال استكمال العملية السلمية بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، وفتح ملف اللاجئين وغيره من الحقوق المشروعة عاد الكيان الصهيوني إلى نظرية فرض الأمر الواقع، بمعنى أنه هو الذي يقرر التزاماته، والتحلل منها إذا أراد بدعوى الحفاظ على بقائه في مواجهة تهديدات ماثلة أو مفترضة!


نحن في الأردن نعرف هذه الحقائق، وأكثر منها، وجلالة الملك عبدالله الثاني لفت الانتباه على مدى السنوات الماضية إلى أن إسرائيل لم تعد معنية بالحقوق الفلسطينية، ولا حتى بالحد الأدنى الذي يمنح الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال قدرا من الحياة الطبيعية، بل على العكس من ذلك ظلت تمارس كل أنواع التضييق والقمع والاعتقال والقتل وهدم البيوت، وتجريف المزارع واتلاف المحاصيل، لتجعل حياته في جحيم دائم.


كانت الصورة في ذهن جلالة الملك واضحة كل الوضوح، وكان تقديره لما يمكن أن يحدث من تطورات خطيرة سليما وحقيقيا، وهو لذلك دعا قادة دول العالم إلى ملاحظة هذا الانحراف الكبير في الحالة الإسرائيلية التي تحولت إلى خليط من الصهيوينة الدينية التوسعية الاستيطانية العنصرية، مع تنامي عقلية القلعة التي أشار إليها جلالة الملك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل أن يفهم الجميع المدى الذي يمكن أن تذهب إليه إسرائيل في حال تعرضها لخطر ما، كرد فعل على اعتداءاتها المستمرة على الشعب الفلسطيني.


ما يحدث الآن في غزة بشكل خاص، وفي بقية مدن الضفة الغربية بصفة عامة يعكس تماما حالة الانحراف تلك ليس على مسار القضية الفلسطينية وحسب بل على مستوى النظام العالمي للدول التي خرجت عنه، وعن كل الضوابط التي تنظمه في نطاق الشرعية الدولية بمنظماتها المستقرة، ومعاهداتها واتفاقياتها النافذة، وفي ذلك ما يفسر منهج جلالة الملك في جميع اتصالاته العربية والدولية في ظل حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل من أجل أن يدركوا بأن وقف تلك الحرب في حد ذاتها ليس كافيا، وأن المطلوب هو معالجة حالة الانحراف هذه التي باتت تهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها، والسلام العالمي كله!

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا