"ولا تاْيئسوا من روح الله"

figuur-i
figuur-i

د. محمد المجالي

في هذه الحياة محطات صعبة لا بد منها، فهي طبيعة الحياة الدنيا، ابتلاء بشتى أنواعه، كدر وآلام وتنغيص، عداوات وتدافع وحذر، فيها الراحة والشدة، والقوة والضعف، والراحة والمشقة، يداول الله الأيام ليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ من عباده أصفياء شهداء، فهي حياة مؤقتة، ممر لا مقر، فالدار الآخرة هي دار القرار، والعجيب أن مصير الإنسان المؤبد يعتمد على هذه الفترة المؤقتة، إذ هي الامتحان، والنعيم أو الجحيم الدائمان نتيجة لهذا الامتحان.اضافة اعلان
ولأن الشدائد موجودة، والابتلاء متنوّع حاصل لا محالة، فهي سنة الله تعالى في خلقه: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم"، والابتلاء قد يكون في الخير والشر ليشكر الإنسان أو يكفر، ولكن الشدائد على وجه التحديد بحاجة إلى ما يعزز الصبر، ويسلي الإنسان، ويرطب الروح، ويشد العزيمة، ويبدد الظلمة، ويجدد الأمل.
ولا أبالغ إن قلت إن كثيرا من النصوص القرآنية والنبوية تحفل بهذه التوجيهات، فنحن بشر، وتنتابنا موجات من الإحباط وخَوَر العزيمة، فيأتي التوجيه الرباني بما يجدد الهمة ويكشف الغمة، فهو الله سبحانه القادر الخالق الحكيم الخبير العليم، لا يتم شيء في كونه إلا بعلمه ووفق حكمته، يسمع ويرى، حتى ما يؤذينا فهو بعلمه، ولا نسأل لماذا قدّره علينا، فهي ابتلاءات، وهي سنن الحياة، وغالبها من عند أنفسنا: "قل هو من عند أنفسكم" لمخالفات فعلناها، وهي في الجملة في علم الله وبإذنه، وهو يحب من عبده أن يتذلل له، وينكسر أمامه، ويخضع له، فلا شيء يعجزه سبحانه، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كنْ، فيكون.
هناك ما نسميه مبشرات ومعززات، على مستوى الفرد والأمة، فكل إنسان أدرى بنفسه: "بل الإنسان على نفسه بصيرة"، والبيوت عموما أسرار، ولا يظنن ظان أنه وحده المبتلى، فربما من يظنه معافى هو أشد ابتلاء منه، فليس المرض وحده ابتلاء، ولا الفقر ولا العقم ولا العقوق أو الشقاق أو الخيانة أو التفكك الأسري أو القلق… إلخ، فربما معظم الناس مبتلون بالضراء ولكنهم صابرون لا يبدو عليهم أثر الابتلاء. أما على مستوى الأمة هناك الضعف والذل والهزيمة والقحط والأمراض الفتاكة، وفي الأحوال كلها لا بد من الأخذ بالأسباب، وحسن التوكل على الله.
يبث الله تعالى هذه المبشرات لتشد العزيمة، وتحيي الأمل، ومنها هذه العبارة التي قالها الله على لسان يعقوب وقد فقد يوسف وأخاه، فقال لبقية الإخوة: "يبنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تاْيئسوا من روْح الله، إنه لا ياْيْئس من روْح الله إلا القوم الكافرون"، فاليأس من رحمة الله وفَرَجه ونصره هو من صفات الكافرين، نفهم من هذا أن المؤمن لا ييأس مهما اشتدت به الظروف، لسبب بسيط جدا ما أحوجنا جميعا إلى إدراكه فعليا وواقعا، ألا وهو: أنّ الله تعالى موجود، وهو الذي له صفات الكمال والجلال سبحانه، فلا يعجزه شيء.
كم نعاني في أيامنا من أهوال تكاد تحبط عزائمنا، ربما كل واحد أدرى بنفسه على الصعيد الفردي والأسري، ولكن الطامة الكبرى على مستوى الأمة، حيث الوضع العالمي الباعث على اليأس، والذل الذي تعيشه أمتنا وقد استسلمت لأعدائها، ينهبون خيراتها، ويذلون أبناءها، ويتقاسمون أرضها، إفقار للشعوب متعمَّد، إشاعة الفرقة بينها، إثارة للعداوة والبغضاء وإحياء للنعرات والقوميات والتعصب للفئة والقبيلة والفرقة والمذهب، ومع هذا فلا يجوز لنا أن نسمح باليأس أن يتغلغل إلى أنفسنا.
إننا نعلم (على مستوى الأمة) أن ما بنا ليس من قوة أعدائنا، واقرؤوا التاريخ ينبئكم، بل اقرؤوا القرآن ليخبركم أن من أخذ بسنن العزة فلا بد هو عزيز، ومن أخذ بسنن الرخاء والمنعة والتقدم فهو بلا شك حاصل، فسنن الله لا تتخلف، وإن بدت متخلفة عن وقوعها فهناك خلل ما لا بد من مراجعة أنفسنا بشأنه بصدق، وتحضرني هنا الآية: "إن تنصروا الله ينصركم"، فهو شرط مع فعله وجوابه، وهو كلام الله، معادلة بسيطة واضحة: انصروا الله ينصركم، ونصره بإقامة منهجه وإحقاق الحق والعدل وتوحيده والتوجه إليه والأخذ بالأسباب في عمومها، إن تحقق ذلك فلا شك أن النصر قادم، ولا يمكن أن يتخل، فإن كانت المدخلات صحيحة، لا بد أن تكون المخرجات كذلك.
مراجعة أحوال النفس والفكر والجماعة والمنهج وتجديد الحال كلها أمور مطلوبة تدخل في إحياء الأمل المفهوم من نبذ اليأس، مع اليقين الكامل بالله تعالى وقدرته، ولا يمكن أن يرد الله من أقبل عليه يرجوه ويظن به خيرا، ولسنا أشد غيرة على أمتنا ودمائنا وديننا منه سبحانه، ولكن نصر الله لا يستحقه إلا أهله، فاللهم استخدمنا في طاعتك ونصرة دينك وأمتك، ولا تستبدلنا، إنك أنت العزيز الحكيم.