إيلان بابيه: عن النكبة، وغزة، والتضامن الشامل مع الفلسطينيين‏

‏شحدة طه (85 عامًا)، شهد النكبة في 1948، ونزح ثانية عندما دمرت إسرائيل منزله في 14 أيار (مايو)  - (المصدر)‏
‏شحدة طه (85 عامًا)، شهد النكبة في 1948، ونزح ثانية عندما دمرت إسرائيل منزله في 14 أيار (مايو) - (المصدر)‏

إيلان بابيه‏* - (ذا بالستاين كرونيكل) 15/5/2023

نادرا ما يكون صناع السياسات أشخاصا تحركهم الاعتبارات الأخلاقية، على الرغم من أنهم لا يتوقفون أبدا عن الحديث عنها.

اضافة اعلان

 

إنهم يهتمون فقط بالانتخابات؛ بأن يكونوا مرئيين، والأمور الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى انتخابهم. وهذا ينطبق على الديمقراطيات الليبرالية بقدر ما ينطبق على أشكال الحكم الأخرى.

 

و‏لا يمكن لتلبية الحاجة إلى ممارسة الضغط على الحكومات على مستوى العالم -في شمال العالم وجنوبه- لإنصاف الفلسطينيين أن تتم من خلال إقناع سياسي واحد، أو حزب معين، أو أن يعمل عليها أشخاص علمانيون أو متدينون فحسب.


*   *   *

 

مرة أخرى يتعرض قطاع غزة للقصف من الجو والبر والبحر. ومرة أخرى، تقابَل الوحشية والقسوة الإسرائيلية بالصمت الغربي. وقد كتبنا مرات لا تحصى حول هذا الموضوع. ولكم أن تتخيلوا كم مرة صرخ الجيل الأكبر منا ضد هذا الظلم الذي يعود وراء إلى أيام النكبة، إن لم يكن قبلها.‏

 

خمسة وسبعون عاما على النكبة.. أين دولة فلسطين؟

 


أظهرت الدراسات الحديثة أنه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى النكبة، حذرت لجان التحقيق المختلفة التي أرسلتها عصبة الأمم أو الحكومة البريطانية مرسليها من أن استمرار استعمار فلسطين ستكون له نتائج كارثية على شعبها الأصلي.

 

وعلى حد تعبير لجنة شو للتحقيق في العام 1930، فإن "شراء اليهود للأراضي يشكل خطرا مُحدقا على البقاء القومي للعرب" في فلسطين.‏


‏اعتقد البريطانيون أن القيود التي فرضوها على دخول المهاجرين الصهاينة إلى البلاد والقيود المشددة على قيام المؤسسات الصهيونية بشراء الأراضي ستنقذ الفلسطينيين.

 

ومع ذلك، بحلول الوقت الذي بدأوا فيه في تنفيذ هذه السياسة، كان الأوان قد فات. والأهم من ذلك أن الحكومة البريطانية في فلسطين كانت على علم بنية الحركة الصهيونية الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من فلسطين مع وجود أقل عدد ممكن من الفلسطينيين فيها.

 

ومع ذلك، تمكنت تلك الحركة من توفير القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لتنفيذ تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم بمجرد انتهاء الانتداب.‏


خلال النكبة، عندما بدأت القوات الصهيونية عملية التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في شباط (فبراير) 1948 بالإخلاء القسري لثلاث قرى حول قيصرية، كان المسؤولون البريطانيون والجيش البريطاني ما يزالون هناك، وعليهم واجب الالتزام بحماية أرواح وممتلكات الفلسطينيين وفقا لميثاق الانتداب وقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.


‏لكن الممثلين البريطانيين المحليين وقفوا متفرجين بينما يتصاعد التطهير العرقي ضد الفلسطينيين مصحوبا بالإبادة الحضرية (التدمير المنهجي للبلدات والأحياء) الذي اندلع في نيسان (أبريل) 1948 -حتى أنهم ساعدوا في بعض الحالات القوات الصهيونية في تنفيذ التطهير العرقي.

 

وأدت هذه المرحلة من الطرد ونزع الملكية إلى تحويل أكثر من ربع مليون فلسطيني إلى لاجئين، مما أُجبر العالم العربي المتردد على إرسال قواته لمحاولة إنقاذ البقية. لكنه لم يفعل إلا عندما غادرت بريطانيا فلسطين في 15 أيار (مايو) 1948. وبحلول ذلك الوقت، كان ذلك التدخل عديم الفائدة.


‏قبل وبعد انتهاء الانتداب البريطاني، كان الصحفيون الغربيون ومبعوثو منظمات مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي حاضرين على الأرض. وأبلغ الصحفيون الأميركيون الذين يرافقون القوات الصهيونية عن مذابح تُرتكب في اللد وأماكن أخرى، ومع ذلك لم تصدر أي إدانة لجرائم الحرب.

 

كما لم ينشر الصليب الأحمر الدولي ما كان يعلم أنه يتكشف على الأرض. ويُظهر تقريره الداخلي أنه شعر بالفزع من الطريقة التي عامل بها الإسرائيليون الفلسطينيين الذين لا تتجاوز أعمارهم 14 عاما، الذين سجنوا في معسكرات العمل القسري. كما سجلت هذه التقارير التسميم المتعمد لمياه عكا ببكتيريا التيفوس. وتم وضع كل هذه المعلومات على الرف إلى أن عثر عليها مؤرخون مثل سلمان أبو ستة في الأرشيفات.‏


أرسل هذا الصمت رسالة مهمة إلى دولة إسرائيل الجديدة: الجرائم مثل التطهير العرقي -التي أدانها في العام نفسه إعلان حقوق الإنسان الشهير للعام 1948- مسموح بها في حالة الدولة اليهودية. واستمر غياب أي رد فعل غربي أو أممي بينما قامت إسرائيل بمحو أي أثر للثقافة والحياة الفلسطينيتين في أعقاب عمليات التطهير العرقي، من خلال بناء المستوطنات اليهودية، وإنشاء الحدائق الترفيهية على أنقاض القرى الفلسطينية.‏


‏ثم تواصل تاريخ الصمت الغربي في الخمسينيات -في مواجهة عمليات القتل ضد الفلسطينيين الذين حاولوا استعادة ممتلكاتهم في أوائل العام 1950، والحكم العسكري القاسي الذي فُرض على الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل، ومذابح قبية وكفر قاسم.‏


‏حقيقة أنه بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، كان من الأسهل بكثير جمع المعلومات حول السياسات الإجرامية الإسرائيلية -التي شملت التطهير العرقي الشامل في مرتفعات الجولان السورية- لم تغير رد الفعل غير الأخلاقي الذي داوم عليه الغرب. ولم تؤد الأحداث الجديدة سوى إلى المزيد من نفاق الغرب والاستثنائية الممنوحة لإسرائيل.‏


‏في الحقيقة، لم يكن الجميع صامتين. فقد سجل الناس المتواجدون على الأرض الذين يمثلون العالم الغربي ما رأوه وما سمعوه. وكانوا يمثلون منظمات دولية محترمة ولجان تحقيق أرسلتها الأمم المتحدة، أو أنهم كانوا جزءا من البعثات الدبلوماسية، سواء في تل أبيب أو القدس أو رام الله. وقدموا تقارير أسبوعية وشهرية وسنوية مفصلة -سجلت بدقة جغرافية الكارثة التي أحدثتها إسرائيل في أجزاء مختلفة من فلسطين التاريخية.

 

وقد رسم هؤلاء الممثلون صورة يجب على الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن تنظر إليها بعناية فائقة بينما تصرح بأن إسرائيل جعلت الصحراء تزدهر -في الواقع، أصبحت فلسطين المزدهرة مسبقا صحراء تحت الاستعمار الإسرائيلي.‏


إننا مدركون جميعا لحقيقة أن الحكومات الغربية لا تمثل قطاعات واسعة من مجتمعاتها في هذه المسألة، ونحن ننتظر، والكثير منا يعمل، لسد الفجوة بين السياسات الرسمية تجاه إسرائيل والرأي العام حول هذه القضية.

 

في السنوات الأخيرة، شنت إسرائيل حربا ضد هذه القطاعات في الرأي العام، واستخدمت معاداة السامية كسلاح -ومؤخرا إنكار المحرقة- في محاولة لإسكات هؤلاء الأشخاص والمنظمات، ولكن بلا جدوى -التضامن مع فلسطين في توسع ونمو مستمرين.‏


‏لكن سياسة الإبادة الجماعية التدريجية على الأرض تجعل مثل هذا الانتظار الصبور لقدوم اليوم المرغوب الذي سترى فيه الحكومات الغربية النور هو ترف لا يستطيع الفلسطينيون تحمل كلفته. وسواء أحببنا ذلك أم لا، والكثير منا لا يحبونه، فإن حياتنا في العديد من الأماكن في العالم يحددها صانعو السياسات -ولو أن ذلك ليس في كل جانب من جوانب الحياة، والحمد لله على ذلك.

 

لكن هذه السياسات تؤثر بشكل كبير على مصائرنا في مسائل تتعلق بالحياة والموت -في حالات الحرب والسلام، والاضطهاد والتحرير.‏


نادرا ما يكون صناع السياسات أشخاصا تحركهم الاعتبارات الأخلاقية، على الرغم من أنهم لا يتوقفون أبدا عن الحديث عنها. إنهم يهتمون فقط بالانتخابات؛ بأن يكونوا مرئيين، وبالأمور الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى انتخابهم. وهذا ينطبق على الديمقراطيات الليبرالية بقدر ما ينطبق على أشكال الحكم الأخرى.


‏لا يمكن لتلبية الحاجة إلى ممارسة الضغط على الحكومات على مستوى العالم -في شمال العالم وجنوبه- أن تتم من خلال إقناع سياسي واحد، أو حزب معين، أو أن يعمل عليها أشخاص علمانيون أو متدينون فحسب.


هذا صحيح. لا يمكن إنكار أن اليسار، في أجزاء كثيرة من العالم، قاد تاريخيا الطريق لحركة التضامن مع الفلسطينيين، لكن فلسطين في حاجة إلى الجميع: ثمة أشخاص في الأحزاب الليبرالية والمحافظة لم يكونوا، في الماضي والحاضر، أقل تأييدا للفلسطينيين من أي أحد آخر، وثمة غالبية كبرى من الناس الذين يؤمنون بالتقاليد والدين، والذين يعتبرون فلسطين وتحريرها هدفا مقدسا.‏


‏بأكثر من طريقة، مكنت "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS) مثل هذه المشاركة الواسعة التي تركز على الحقوق الفلسطينية، وتوفر أساسا أوسع لأعمال التضامن الشاملة.

 

وهي تتجه إلى قطاعات كثيرة وحاسمة من المجتمع المدني. وقد طلبت مبادرة جديدة، بالتوافق مع حركة المقاطعة والتعاون معها، من البرلمانات أن تأخذ زمام المبادرة في إنشاء لجان مناهضة للفصل العنصري الإسرائيلي، وأن تكون جزءا من شبكة دولية من هذه اللجان في جميع أنحاء العالم.‏


والأمل أنه في الأماكن التي يتردد فيها البرلمانيون والمسؤولون الحكوميون في دعم حركة المقاطعة علنا -والتي ربما كانوا يدعموها من حيث المبدأ- لا يمكنهم الامتناع عن المشاركة في إدانة دولة فصل عنصري كما صنفتها بوضوح منظمة العفو الدولية وغيرها من منظمات حقوق الإنسان بوضوح.‏


‏وهناك بالفعل دلائل على ردود فعل إيجابية على هذه المبادرة بين أعضاء البرلمانات.

 

وهو مثال واحد فقط على مدى الاتساع، والتقاطع، وتعدد الأوجه الذي يمكن تحققه حركة تضامن. وقد تم إنجاز عمل كبير أفقيا، بالتحديد توسيع المجموعات التي يعمل معها التضامن مع فلسطين في جميع أنحاء العالم.

 

ولكن، يجب أيضا القيام بمزيد من العمل الرأسي وفي العمق، وعدم استثناء البرلمانات وموظفي الخدمة المدنية وغيرهم. وقد حان الوقت لدخول منطقة الراحة في اللوبي الصهيوني، حيث يعتقد ناشطوه أنهم مهيمنون أو بلا منازع.‏


كما هو الحال دائما، ثمة حاجة ملحة إلى كل ذلك، لأننا نتعامل كل الوقت مع خطر وجودي يتهدد الفلسطينيين.


‏أمضى اليهود الإسرائيليون، بمن فيهم اليساريون، معظم فترة قصف غزة وهم يشاهدون بينما يتناولون عشاءاتهم مقاطع مكررة على شاشات التلفزة لقواتهم الجوية وهي تحول إلى أشلاء منازل الفلسطينيين في قطاع غزة. وكان بعض الطيارين الذين شاركوا في هذا العنف البشع هم نفس أولئك الذين أعلنوا بفخر أنهم جزء من حركة الاحتجاج ضد الإصلاح القانوني الذي اقترحه رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني، بنيامين نتنياهو؛ "حركة ديمقراطية"، في الواقع.‏


عندما يجمع المرء هذا مع التعليقات التي يسمعها على وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإنه لا يستطيع سوى الوصول إلى استنتاج مفاده بأن إسرائيل أصبحت دولة مريضة وخطيرة. ويجب نشر هذه الرسالة بوضوح وإيصالها إلى قمة الأنظمة السياسية في جميع أنحاء العالم، بل وإلى كل مجتمع، في كل مكان.

‏*إيلان بابيه Ilan Pappé: أستاذ في جامعة إكستر. كان سابقا محاضرا كبيرا في العلوم السياسية في جامعة حيفا. وهو مؤلف كتب "التطهير العرقي في فلسطين"، و"الشرق الأوسط الحديث"، و"تاريخ فلسطين الحديثة: أرض واحدة، وشعبان"، و"عشر أساطير عن إسرائيل".

 

يوصف بابيه بأنه أحد "المؤرخين الجدد" في إسرائيل الذين قاموا، منذ إصدار وثائق الحكومة البريطانية والإسرائيلية ذات الصلة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بإعادة كتابة تاريخ إنشاء إسرائيل في العام 1980.


*نشر هذا المقال تحت عنوان:

Western Silence Needs to be Confronted: Ilan Pappe on the Nakba, Gaza and Inclusive Solidarity

 اقرأ المزيد في ترجمات