لم أعد أؤيد الحرب في غزة‏

مشهد من الدمار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي في غزة، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 - (أرشيفية)
مشهد من الدمار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي في غزة، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 - (أرشيفية)

ديفيد إينوك* - (الإيكونوميست) 13/3/2024


‏مع تغير الظروف، يجب على اليسار الإسرائيلي إعادة النظر في موقفه من الحرب على غزة. وكذلك يجب أن يفعل المؤيدون الليبراليون لإسرائيل في الخارج.‏

*   *   *
‏خلال الأسابيع الأولى من الحرب، في أعقاب فظائع 7 تشرين الأول (أكتوبر)، رفض الكثيرون في اليسار الإسرائيلي، بمن فيهم أنا نفسي، الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار. كنا -حتى في ذلك الوقت- ندرك جيدًا المعاناة والخسائر الهائلة التي سيشهدها الفلسطينيون الأبرياء، وانتقدنا بعضَ الطرق التي أديرت بها الحرب. ومع ذلك، كان الكثيرون منا مقتنعين -وهو ما أزال أعتقد أن له ما يبرره- بأن هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتداعياتها لم تترك لإسرائيل بديلاً معقولاً عن القيام بعمل عسكري واسع النطاق في غزة، على الرغم من الثمن المروع الذي سيترتب عليه.‏

اضافة اعلان


‏وفي الأسابيع الأولى التي أعقبت الهجمات، شاهد العديد من الإسرائيليين، وخاصة اليساريين، بتشكك وألم، ردود الفعل المخزية للكثيرين خارج إسرائيل، بمن فيهم بعض الذين يعتبرون أنفسهم جزءًا من اليسار. وقد سارعنا إلى فضح أكاذيب ونفاق أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مقاتلين من أجل الحرية والعدالة، الذين نصبوا أنفسهم مؤيدين للضحايا أينما كانوا، والذين فجأة لم يعودوا متعاطفين مع ضحايا فظائع 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أو لم يفهموا الحاجة إلى منع حدوث مثل هذه الفظائع مرة أخرى. ولم يكن دفاعنا عن إسرائيل خاليًا من التحفظ، لكنه كان دفاعًا -مع ذلك.‏


‏كما انتقد بعضنا بشدة الادعاءات التي لا أساس لها حول ما اعتبرناه الهجمات الإسرائيلية العشوائية المزعومة في غزة، أو الرفض الساذج لأهمية الردع (وبالتالي الحاجة إلى إعادة تأسيسه). وقد دعوتُ أنا شخصيا إلى الاعتدال والتواضع في الخطاب العام، مدركًا تعقيدات وندرة المعلومات المتاحة لمعظمنا. واقترحتُ أن مثل هذا التواضع ينبغي أن يمنعنا من الوصول إلى استنتاجات واثقة، وربما ينبغي أن يشجعنا على السعي إلى وضع ثقتنا بشكل مبدئي في الأشخاص الأكثر عقلانية بين صانعي القرار الإسرائيليين.‏


لكن الواقع في غزة والمنطقة دينامي ومتغير، ولا ينبغي دعم حرب إسرائيل بعد الآن. فقد أصبح الهدف الرئيسي المتبقي للعملية العسكرية كما تدار حاليا هو البقاء السياسي لبنيامين نتنياهو. ويعرف رئيس الوزراء الإسرائيلي أن أي اتفاق معقول بشأن غزة يغلب أن يطيح بائتلافه اليميني المتطرف. هذا، إلى جانب حقيقة أن التصعيد المحتمل للاحتجاجات التي تدعو إلى إقالته بمجرد ألا يعود المجهود الحربي في مركز الصدارة، ليس احتمالاً يستسيغه نتنياهو.‏


‏من الصعب جدا، بل وربما من المستحيل، تحديد لحظة محددة عندما تعبر مثل هذه الحرب الخط إلى المكان الذي يتعذر فيه الدفاع عنها أخلاقيا. وهذا صحيح بشكل خاص بالنظر إلى أن الأمر، في بعض النواحي (معاناة سكان غزة الأبرياء) كان فظيعًا منذ البداية؛ وأنه في جوانب أخرى (النضال من أجل تأمين إطلاق سراح الرهائن) ما يزال مبررًا حتى في هذا الوقت. ومع ذلك، ثمة عاملان يوضحان أن هذا الخط قد تم تجاوزه الآن مسبقًا: اعتبارات الردع، والمعلومات الواردة من داخل مؤسسة صنع القرار الإسرائيلية.‏


‏كان من شأن ترك فظائع 7 تشرين الأول (أكتوبر) تمر من دون رد قوي ومدمر أن يترك الردع الإسرائيلي ضعيفًا بشكل خطير. وربما كانت الحاجة الأخلاقية لاستعادة الردع -وهي حاجة أخلاقية لأن الردع ينقذ العديد من الأرواح، على كل جوانب جميع الحدود- تبرر إحداث دمار مروع في غزة. لكنَّ هذا تحقق بالفعل: لقد أظهرت إسرائيل لأي طرف في المنطقة أنها تولي اهتمامًا، ليس لقوتها النارية فحسب، بل لاستعدادها لاستخدامها بلا رحمة. ومن الصعب تصديق أن العمليات التي ما تزال جارية في غزة -التي هي إلى حد كبير جهد صيانة أكثر من كونها عمليات عدائية- تضيف أي شيء من حيث قيمة الردع.‏


‏لا تفيد التقارير الصادرة عن أشخاص في دوائر الجيش وصنع القرار الإسرائيلية بأن الحرب لا تدار بشكل غير كفء فحسب، لكنها تفيد أيضًا بأن مقاومة نتنياهو لأي محاولة لمناقشة "اليوم التالي"، فضلاً عن عدم وجود أي شيء يشبه الخطة الاستراتيجية، يهدد بتقويض حتى الإنجازات العسكرية التي تم تأمينها بالفعل (مؤقتًا).

 

ولا شك في أن تكرار صدور مثل هذه التقارير عن هؤلاء المطلعين -التي أصبحت في الآونة الأخيرة أكثر بكثير مما كانت عليه في تشرين الأول (أكتوبر) أو تشرين الثاني (نوفمبر)- تساعد إلى حد ما في تبديد ضباب عدم اليقين. ثمة، إذن، حاجة أقل من المطلوب على صعيد التواضع المعرفي: إن القيمة المحتملة لمواصلة المجهود الحربي ضئيلة.‏


‏بينما كانت القيمة الإيجابية التي يمكن أن نتوقعها من جهد الحرب في انخفاض مطرد في الأشهر الأخيرة، استمر الثمن في أن يكون مرتفعًا للغاية. أصبح عدد القتلى في غزة يفوق الخيال، وما يزال يواصل الارتفاع. ووفق جميع الروايات، فإن آلافا عدة من القتلى والجرحى هم من الأطفال.

 

وقد أصبح هناك الآن عدد أقل من الوفيات نتيجة للقصف الإسرائيلي مقارنة بالسابق، لكنَّ عدد الوفيات الناجمة عن الجوع في ازدياد. بل إن التنبؤات الأكثر محافظة بشأن الجوع والمرض أكثر إحباطًا. وحتى لو كان من الممكن تبرير الثمن، من حيث موت ومعاناة الأبرياء، في وقت سابق، عندما كانت قيمة الردع والقيم الأخرى على المحك، فإنه لم يعد يمكن تبريره الآن.‏


‏بطبيعة الحال، ثمة بعض الأشياء التي لا تتغير. لم يتغير كون حماس منظمة إرهابية متعصبة لا ترحم، وغير مبالية بمصير مواطنيها المدنيين، وسعيدة باستخدام الرهائن المدنيين كأوراق للمساومة. ويبقى صحيحًا الآن، كما كان الحال دائمًا، أنه كان بإمكان قيادة حماس إنهاء المعاناة قبل أشهر بإطلاق سراح الرهائن ومغادرة قطاع غزة. وما يزال بإمكانها أن تفعل. ومن الصحيح أيضًا أنه إذا بقيت حماس قوية في غزة، فإن ذلك سيكون عقبة كبيرة أمام أي حكم يمكن التحكم فيه بعد الحرب في القطاع. وما يزال يتعين التصدي لمزيد من التهديدات، سواء لإسرائيل أو للمنطقة بأسرها. وبذلك، تبقى الحلول معقدة للغاية. وما تزال هناك حاجة إلى بعض الاعتدال والتواضع.‏


‏لكن الاتجاه العام واضح: يجب على إسرائيل أن تشارك في صياغة استراتيجية شاملة للمنطقة خاضعة لإشراف وتنفيذ دوليَّين، والتي تشمل -على غرار الخطط التي اقترحتها إدارة بايدن- خطة للحد من المزيد من الموت والمعاناة في غزة. ويجب على المجتمع الدولي أن يدفع إسرائيل في هذا الاتجاه -بالقوة، إذا لزم الأمر.‏


بالنظر إلى تصميم نتنياهو على أن يكون عقبة أمام أي تقدم من هذا القبيل، وبالنظر إلى عدم اكتراث حكومته (في أحسن الأحوال) بفقدان أرواح الأبرياء في غزة، وبالنظر إلى عدم اكتراثه حتى بمصير الرهائن والجنود الإسرائيليين، فإن الشرط الضروري للتقدم هو عزله من منصبه.‏

‏*ديفيد إينوك‏‏ David Enoch: أستاذ فلسفة القانون في جامعة أكسفورد وأستاذ القانون والفلسفة في الجامعة العبرية في القدس.‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان:I no longer support the war in Gaza

 

*ملاحظة المحرر: الأوصاف التي يطلقها الكاتب على المقاومة الفلسطينية تخص الكاتب وحده ولا تمثل وجهة نظر هذه الصحيفة.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

حرب غزة تظهر تزايدا لخطر التصعيد في المنطقة