هل تفنى البشرية أم تصل إلى الما - فوق - إنسانية؟

1710438304006951900
غلاف كتاب بوستروم "الذكاء الخارق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات" - (المصدر)

سؤال الفيلسوف السويدي نيكولاس بوستروم Niklas Boström يفتح مجالاً واسعاً للنقاش حول العقل الاصطناعي والدماغ البشري، وهل يمكن أن يكون العلم وحده طريقاً لتغيير حياة الإنسان في القرون المقبلة؟
*   *   *
"تعيش البشرية أخطاراً وجودية تشكلها أحداث من شأنها أن تقضي على الحياة الذكية التي نشأت على الأرض، أو تقلل من إمكاناتها بشكل جذري".

اضافة اعلان


تبدو هذه العبارة مثيرة للهلع وليس للقلق فقط، وهي واحدة من بنات أفكار هذا الفيلسوف السويدي المعروف بقراءاته وكتاباته المعمقة، لا سيما حول العلاقة بين الإنسان والآلات الذكية الاصطناعية لبقية هذا القرن.


لم يعد سراً أن الذكاء الاصطناعي التقليدي، وتالياً الذكاء الاصطناعي الفائق (السوبر)، أصبح أحد المخاوف الوجودية التي تقلق العلماء والدارسين، والفلاسفة والمفكرين، وجميع الذين يتعاطون مع الأفكار "الما بعد مستقبلية"، وجميعهم يجزم بأن من الوارد جدا أن ينقلب هذا الوارد الجديد على البشر، على الرغم مما يقدمه لهم من تسهيلات حياتية، على البشرية في لحظة زمنية بعينها، ليحيل انتصاراتها إلى انكسارات، ونعيمها إلى جحيم.

 

هذا هو ما توقعه هذا الفيلسوف السويدي الأصل، واتفق معه في توقعاته أكثر من 11 ألف شخص في العام 2015. وقد دعا ذلك إلى زيادة الوعي العام حول العالم والخاص بشأن هذا التهديد الذي ما يزال تقدير خطره أقل من اللازم. ويقدر العلماء المتخصصون احتمال تسبب الذكاء الاصطناعي في انقراض البشرية قبل نهاية هذا العقد بنحو 10 في المائة من احتماله خلال بقية القرن.


من هو نيكولاس بوستروم صاحب هذه الرؤية، ولماذا يعد الرجل من ألمع العقول العالمية التي يعلو صوتها منذراً ومحذراً البشرية من الهول الأعظم الآتي من بعيد، وكأن قصة فرانكشتاين تتجسد من جديد؟

نيكولاس بوستروم.. الفيلسوف الشاب

 


درج العرف على أن يكون الفيلسوف رجلاً متقدماً في العمر، عظيم الخبرة. أما أن يصبح المرء فيلسوفاً وهو في الأربعينات من العمر -وربما قبل ذلك- فينم عن عقلية غير اعتيادية وتقدمية هائلة، قادرة على مساءلة الأيقونات والمسلمات حيناً، ومشاغبتها أحياناً أخرى.


ولد نيكولاس بوستروم في مدينة هلسينبورغ بالسويد في العاشر من آذار (مارس) 1973، وتلقى فيها تعليمه الثانوي وحصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة والرياضيات والذكاء الاصطناعي من جامعة غوتنبورغ. كما حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة والفيزياء من جامعة ستوكهولم؛ كبرى جامعات البلاد.


بعد ذلك اتجه إلى دراسة الماجستير في "علم الأعصاب الاحتباسي" في كينغز كوليج في لندن، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من كلية لندن للاقتصاد. وأشرف على رسالته العلمية البروفيسور كولن هاوسون. وشغل بعد ذلك منصباً تدريبياً في جامعة ييل الأميركية بين العامين 2000 و2002.


اهتم بوستروم مبكراً بالمبدأ الأنتروبي. ومن المعروف أن تفكيك هذا المبدأ هو أمر معقد جداً، غير أنه استطاع بكلمات بسيطة تحديد معيار لقياس العشوائية أو النظام في الكون من حولنا باستخدام مقاييس محددة للمادة.


كان هذا المبدأ مدخلاً لبوستروم ليقوم بدراسة الأخطار التي تتعرض لها الحضارة والبشر فوق كوكب الأرض، في تساوق مع اهتماماته بالمبدأ الإنساني وأخلاقيات التعزيز وأخطار الذكاء الخارق.


أسس بوستروم برنامج "أكسفورد مارتن"، لمعرفة مقدار تأثير التكنولوجيا المعاصرة على حياة الإنسان في المستقبل. وهو يشغل حالياً منصب المدير والمؤسس لـ"معهد مستقبل الإنسانية" في جامعة أكسفورد.


تم إدراج بوستروم بين العامين 2009 و2015 ضمن قائمة أفضل 100 مفكر على مستوى العالم في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية الشهيرة.
*   *   *
في كتاباته، يضعنا بوستروم أمام فكرة أن ما يعجز الكثيرون عن إدراكه اليوم هو أن التقنية لن تكتفي بتغيير محيطنا أو الأثير من تصرفاتنا فحسب -كما يشهد على ذلك عصر الهواتف الذكية الذي صاحبته ظواهر "التشيؤ" والانعزال عن المجتمع من جهة، والانجراف وراء أهواء وموضات جديدة من جهة أخرى- بل سيحين الوقت عاجلاً أم آجلاً لأن تتصرف التقنية بنا جسداً وعقلاً، مما يفتح الباب أمام تغيرات ونتائج لا تخطر على بال كثيرين.


تقف كتب بوستروم بين أهم الكتابات في علم مستقبليات الذكاء الاصطناعي، ومنها كتاب "الذكاء الخارق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات"، الذي نشره في العام 2014، وحقق أعلى المبيعات في قائمة صحيفة "نيويورك تايمز". وقد أوصى كل من إيلون ماسك وبيل غيتس بقراءة هذا العمل لأهميته الفائقة.


الذكاء الاصطناعي ومخاوف بوستروم

 


منذ العام 2016، يرتفع صوت بوستروم منذراً ومحذراً من أن كل الدلائل تشير إلى أن تطور الاختراعات التي تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصل بها بحلول العام 2075 إلى درجة من التطور تستخدم فيها قدراتها للقضاء على الجنس البشري.


ويؤكد الفيلسوف السويدي، أننا نرى مثل هذه الأفكار الخطيرة اليوم مجرد تخيلات اعتدناها في أفلام الخيال العلمي. لكن بعض العلماء، مثل ستيفن هوكينغ، يؤكدون أن التطور السريع للتكنولوجيا يجعل تلك الأفكار تبدو أكثر واقعية.


هل تهيمن الذكاءات الاصطناعية على العقل البشري في المدى المنظور؟

 


يؤكد بوستروم وغيره من العلماء أن قدرات الذكاء الاصطناعي كانت في العام 2022 تعادل 10 في المائة من قدرات الإنسان العقلية، غير أنها ستصل بحلول العام 2040 إلى 50 في المائة من هذه القدرات. أما في العام 2075، فسوف تصل إلى 90 في المائة منها. هذا ما يفسر قلق بوستروم من أن تعمد تلك الآلات إلى استخدام قدراتها ضد مخترعيها -أي أن ينقلب السحر على الساحر.


من هذا المنطلق، تتجلى المخاوف التي تبرر اعتبار الذكاء الاصطناعي تهديداً وجودياً بسبب احتمال أن يصبح البشر غير قادرين على التحكم في مساراته بمجرد ظهوره. وقد يقضي الذكاء الاصطناعي -عن قصد، أو على الأرجح عن غير قصد- على البشرية أو يحبس البشر في عالم فاسد دائم. وربما يستخدمه أفراد أو مؤسسات غير حسنة النية، تسعى إلى استعباد بقية البشرية أو إلى ما هو أسوأ من ذلك. 


يُحسب لبوستروم أنه كان -وما يزال- أول من نقل مستوى الحديث والتفكير من مرحلة الذكاء الاصطناعي وما يدور حوله من تقدير المكاسب والمخاوف إلى عالم ما أطلق عليه وصف "الذكاء الفائق" أو "الذكاء الخارق".

 

ويرى بوستروم أننا أصبحنا اليوم متفرجين على عالم لم نعد نفهمه، حيث لم تعد التحولات التقنية تنتظر منا اللحاق بها أو محاولة إدراك نتائجها في حياتنا، وإنما تحدث فحسب. ولذلك، فإن شعورنا تجاه عواقبها الحتمية لن يتجاوز المفاجأة والانبهار الفوري، ثم الصدمة والقلق عندما يكون التخطيط والانتفاع بالذكاء الاصطناعي أولى بكثير.


ما هو هذا "الذكاء الفائق"، وكيف يمكن أن يغير حياة البشرية في وقتنا الراهن، وكذلك في مستقبلها القريب؟


الذكاء الفائق وتجاوز العقل البشري

 


يفتح بوستروم مجالاً واسعاً للنقاش حول هذا النوع من أنواع الذكاءات في مؤلفه النوعي جداً "ما فوق الإنسانية.. دليل موجز إلى المستقبل"، حيث يعتبر أن "العقل فائق الذكاء" الذي يطلق عليه أحياناً وصف "الذكاء الخارق"، هو الذي يملك القدرة على التفوق بشكل جذري على أفضل العقول البشرية في كل مجال تقريباً، بما في ذلك الإبداع العلمي، والحكمة العامة، والمهارات الاجتماعية.


يميز بوستروم في بعض الأحيان بين الذكاء الفائق الضعيف، والقوي. والذكاء الفائق الضعيف هو ما ستحصل عليه إذا تمكنت من إدارة عقل بشري بصورة متصاعدة، كما لو أنك تفعّله على حاسوب سريع. وإذا كان معدل سرعة الرفع يعادل ألف ضعف سرعة الدماغ البيولوجي، فسوف يدرك الواقع وكأنه متباطئ بألف ضعف. وسيكون من شأنه أن يفكر في فترة زمنية معينة بأفكار أكثر من ألف ضعف نظيره البيولوجي.


أما الذكاء الفائق، فيشير إلى العقل الذي لا يتجاوز سرعة الدماغ البشري فحسب، بل يفوقه ذكاءً من الناحية النوعية. وبالمثل، قد تكون هناك أنواع من الذكاء لا يمكن الوصول إليها حتى لأدمغة بشرية سريعة جداً بالنظر إلى قدراتها الحالية.


هل يذهب بوستروم إلى إمكانية تغيير هذه الحقائق، وبالتالي تعديل شكل العالم المقبل؟
يبدو أن الأمر كذلك قولاً وفعلاً. وهو يرى أن شيئاً بسيطاً مثل زيادة حجم شبكاتنا العصبية أو توصيلتها قد يمنحنا بعضاً من هذه القدرات، وقد تتطلب التحسينات الأخرى إعادة تنظيم كاملة للهندسة الإدراكية أو إضافة طبقات إدراكية جديدة فوق تلك القديمة.


متى يمكننا أن نرى هذا النوع من أنواع الذكاء الفائق؟
يتوقع الكثير من "فوق الإنسانيين" -وإنما ليس جميعهم- أن ينشأ هذا "الذكاء الفائق" خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا يتطلب أمرين: الأجهزة والبرمجيات.


تداعيات الذكاء  الفائق على البشرية 

 


يبدو أن التساؤل الفلسفي المباشر الذي ينبع من الحديث عن الذكاء الفائق هو: "ما تبعات هذا الذكاء على مسارات الإنسانية في حاضرها ومستقبلها؟".


بحسب بوستروم، فإنه من الواضح أن وصول "الذكاء الفائق" سيؤدي إلى توجيه ضربة قاصمة للرؤى المتمحورة حول البشرية للعالم. ومع ذلك، فإن تداعياته العملية ستُحدث تأثيرات أهم من آثاره الفلسفية. وقد يكون خلق "الذكاء الفائق" آخر اختراع يحتاج إليه البشر حيث يمكن للأجهزة فائقة الذكاء أن تهتم بمزيد من التطور العلمي والتقني. وسوف تفعل ذلك بطريقة أكثر كفاءة بكثير من البشر. ولن تكون الإنسانية البيولوجية في ذلك الحين أذكى أشكال الحياة على الأرض.


من هنا، يتبين لنا كيف أن آفاق "الذكاء الفائق" تثير عديداً من القضايا والمخاوف الكبيرة التي يجب أن نفكر فيها بعمق قبل تطورها الفعلي. والسؤال الأهم هو: ما الذي يمكننا فعله لتعظيم فرص الاستفادة من الوصول إلى "الذكاء الفائق" بدلاً من تمكينه من إلحاق الأذى بنا؟


يمتد نطاق الخبرات اللازمة لمعاجلة هذه المسألة إلى ما هو أبعد من مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي.

 

في الحقيقة، يجدر بالأعصاب، والاقتصاديين، وعلماء الإدراك، وعلماء الحاسوب، والفلاسفة، وعلماء الأخلاق، وعلماء الاجتماع، وكُتاب العلوم، والخبراء الاستراتيجيين العسكريين، والسياسيين، والمشرعين، وكثيرين غيرهم -يجدر بهم تجميع أفكارهم معا إذا ما أردنا التعامل بحكمة مع ما قد يكون أهم مهمة يجب أن يتصدى لها نوعنا البشري.


هل يعني الأمر في كل الأحوال أن بلوغ مرحلة "الذكاء الفائق" هو شأن قابل للتحقق بالفعل؟
الثابت أن الكثير من "الفوق - إنسانيين" يودون أن يصبحوا فائقي الذكاء هم أنفسهم.

 

ومن الواضح أن هذا هدف بعيد وغير مؤكد، لكنه قد يصبح قابلاً للتحقق -إما من خلال رفع سوية العقول والتحسين الذي يلي ذلك، أو التحسين التدريجي لأدمغتنا البيولوجية عن طريق أدوية التنشيط المستقبلية -أي عقاقير تعزيز الإدراك، والتقنيات الإدراكية، وأدوات تقنية المعلومات مثل أجهزة الحاسوب القابلة للارتداء، والوسائط الذكية، وأنظمة فرز المعلومات، أو برامج التصور، وواجهات الحاسوب العصبية، أو زراعات الدماغ.


البشرية وتحديات ما- فوق- الإنسانية

 


من النقاط التي تميز بوستروم من حيث إلقاء الضوء الكافي عليها، قضية "الفوق - إنسانية"، وهو مصطلح مثير للتفكير لم يطرح من قبل... فما الذي يعنيه به؟


بحسب كتاباته المتنوعة، يمكن القول "إن التيار الما- فوق- إنساني، يعني وسيلة للتفكير في المستقبل، تقوم على افتراض أن النوع البشري في شكله الحالي لا يمثل نهاية تطورنا، وإنما مجرد مرحلة مبكرة نسبياً، ويعرفها رسمياً بالحركة الفكرية والثقافية التي تؤكد إمكانية -والرغبة في- التحسين الجذري للحالة البشرية من خلال العقلانية العملية، لا سيما من خلال تطوير وخلق تقنيات واسعة النطاق للقضاء على الشيخوخة وتعزيز قدرات الإنسان الفكرية والمادية والنفسية بشكل كبير".


ويمكن النظر إلى "الما- الفوق- إنسانية" باعتبارها امتداداً للنزعة الإنسانية، ومستمدة منها جزئياً. ويعتقد الإنسانيون أن البشر مهمون، والأفراد مهمون. وقد لا نكون مثاليين، لكننا نستطيع تحسين الأمور من خلال تعزيز التفكير العقلاني، والحرية، والتسامح، والديمقراطية، والاهتمام بإخوتنا البشر.


يؤيد أنصار الما- الفوق- إنسانية ذلك، ويؤكدون أيضاً على ما نملك الاستعداد للتحول إليه. فمثلما نستخدم الوسائل العقلانية لتحسين الحالة البشرية والعالم الخارجي، يمكننا أيضاً استخدامها لتحسين أنفسنا، أي الكائنات البشرية. وبالقيام بذلك، فإنا لا نقتصر على الأساليب الإنسانية التقليدية، كالتعليم والتنمية الثقافية. يمكننا أيضاً استخدام الوسائل التقنية التي ستمكننا في النهاية من تجاوز ما يتصوره البعض حين يفكرون في "الإنسان".


تتبدى فلسفة بوستروم بوضوح من خلال حديثه عما يميزنا كبشر. وهو ليس شكلنا فقط، أو تفاصيلنا البيولوجية الحالية التي لا تظهر ما هو قيّم فينا، وإنما ذلك الدور الذي تؤديه طموحاتنا وأهدافنا، وتجاربنا، وأنواع الحياة التي نعشيها. 


وعند أنصار الفوق - إنسانية، وبوستروم على القمة، أن التقدم يحدث حين يكتسب مزيد من الناس قدرة أكبر على تشكيل أنفسهم، وحياتهم، والأنحاء التي يرتبطون بها مع الآخرين، وفقاً لأعمق قيمهم. فالفوق - إنساني يثمن الحكم الذاتي: أي قدرة الأفراد وحقهم في تخطيط واختيار حياتهم الخاصة.


هل العلاقة بين الما- فوق- إنسانيين والتقنيات المعاصرة علاقة وجوبية؟


يرى الفيلسوف السويدي أنه يوجد بطبيعة الحال بعض الناس الذين يختارون، لأي عدد من الأسباب، التخلي عن فرصة استخدام التقنية لتحسين أنفسهم. أما الما- فوق- إنسانيين، فيسعون إلى خلق عالم يمكن فيه للأفراد ذوي الإرادة المستقلة أن يختاروا البقاء من دون تعزيز تقني، أو أن يتم تعزيزهم، بينما يتم احترام خياراتهم في ذلك.


التقنيات والتوقعات رؤية استشرافية

 


هل نيكولاس بوستروم رجل يتحدث عن الذكاء الاصطناعي فحسب؟


من المؤكد أن اهتماماته تفوق جزئية واحدة من جزئيات المشهد الإنسانوي -إذا جاز التعبير. ذلك لأنه إلى جانب اهتماماته بفكرة العقول الذكية والفائقة منها تحديداً، يبقى مهموما جداً بفكرة الإنسان وتطوره على جميع الصعد، تقنياً وبيولوجياً. ولذلك يولي اهتماماً فائقاً لقضايا من نوعية التقنية الحيوية، والهندسة الوراثية، والخلايا الجذعية، عطفاً على الاستنساخ.


في حديثه، على سبيل المثال، عن التقنية الحيوية التي تفتح باباً واسعاً للجسد البشري ينجو منه من أمراض العصر الحاضر وما يستجد من أمراض وأوبئة غير واضحة للعيان في حاضرات أيامنا، يقول إن التقنيات الحيوية هي تطبيق التقنيات والأساليب القائمة على العلوم البيولوجية.

 

ويشمل ذلك شتى المشاريع المتنوعة، كالتخمير، وتصنيع الأنسولين البشري، والأنترفيرون، وهرمون النمو البشري، والتشخيص الطبي، واستنساخ الخلايا والاستنساخ التناسلي، والتعديل الوراثي للمحاصيل، والتحويل البيولوجي للنفايات العضوية واستخدام البكتيريا المعدلة وراثياً في تنظيف تسريبات النفط، وأبحاث الخلايا الجذعية، وأكثر من ذلك بكثير.


أما الهندسة الوراثية، فهي مجال التقنية الحيوية الذي يُعنى بالتغيير الموجه للمواد الجينية.
يرى بوستروم أن الفوائد الطبية المحتملة للتقنية الحيوية أكثر من أن تحصى.

 

فالباحثون يعملون على كل الأمراض الشائعة بدرجات متفاوتة من النجاح. والتقدم لا يحدث في تطوير الأدوية والتشخيص فحسب، بل وفي خلق أدوات ومنهجيات بحث أفضل، مما يسرّع بدوره مسيرة التقدم.


وعند النظر إلى التوقعات على المدى البعيد، يجب علينا حساب تأثير التحسينات في عملية البحث. فقد تم الانتهاء من مشروع "الجينوم البشري" قبل الوقت المتوقع، غالباً لأن التقديرات الأولية استهانت بمدى تحسين تقنية الأجهزة خلال فترة المشروع.

 

وينصح بوستروم بأن لا يعد العالم إلى تهويل كل تحسن جديد، بل أن يتعامل انطلاقاً من مقولة "لا تحارب الحقائق، بل تعامل معها".


هل سعى بوستروم إلى إعادة إحياء بعض من علوم المصريين القدماء، لا سيما علم التحنيط؟ وإذا كان قد قارب المنطقة بالمساءلة، فهل اتبع طرق الأولين، أم أنه قدم في رؤيته لما فوق الإنسانية الآنية طروحات وشروحات مغايرة؟


عن التحنيط بالتجميد مستقبلاً

 


التحنيط بالتجميد هو إجراء طبي تجريبي يسعى إلى إنقاذ الأرواح عن طريق وضع الأشخاص الذين لا يمكن علاجهم بالعمليات الطبية الحالية ويعتبرون أمواتاً من الناحية القانونية، في خزانات تحت حرارة منخفضة، على أمل أن يتمكن التقدم التقني من إحيائهم.


يقول بوستروم إنه لكي يعمل التحنيط بالتجميد اليوم، ليس من الضروري أن نتمكن من إعادة إحياء المرضى المحنطين بالتجميد، وإنما كل ما نحتاج إليه هو أن نتمكن من الحفاظ على التقنيات الممكنة التي يتم تطويرها في المستقبل، وسنتمكن في يوم من الأيام من إصلاح تلف التجميد وعكس السبب الأصلي لتوقف الحياة.

 

وعنده أنه لا يمكن التعرف إلى أكثر من نصف الإجراء الكامل للتجميد اليوم، ولا يمكن تنفيذ النصف الآخر في المستقبل.

 

هل هذا الحديث قابل للتطبيق العملي؟

 


المؤكد، بحسب كتابات الفيلسوف السويدي، هو أن ما نعرفه الآن يتعلق بإمكانية تثبيت حالة المريض عبر تبريده في النيتروجين السائل (-196 درجة مئوية). ويحدث قدر كبير من تلف الخلايا نتيجة لعملية التجميد.

 

ويمكن التقليل من هذه الإصابات باتباع إجراءات التعليق اللاحقة التي تنص على إشباع الجسم المتعطل بواقيات التجميد. بل يمكن تجاوز تكون البلورات الثلجية المدمرة بالكامل في عملية تعرف باسم "التزجيج"، حيث يتم تحويل جسم المريض إلى نوع من الزجاج.

 

وقد يبدو هذا وكأنه علاج غير محتمل، لكن الغرض من التحنيط بالتجميد هو الحفاظ على بنية الحياة بدلاً من عمليات الحياة، لأنه يمكن إعادة تشغيل عمليات الحياة من حيث المبدأ، ما دامت المعلومات المشفرة في الخواص الهيكلية للجسم، وبخاصة الدماغ، محفوظة بشكل كاف.

 

وبمجرد تجميده، يمكن تخزين المريض لآلاف السنين من دون أي تدهور إضافي في الأنسجة.


تحسين الحاضر أم التخطيط للمستقبل؟

 


لعل آخر تساؤل يمكننا أن نختتم به هذه القراءة السريعة في عقل نيكولاس بوستروم الفيلسوف السويدي الشهير: "أليس علينا التركيز على المشكلات الحالية مثل تحسين حالة الفقراء، بدلا تركيز جهودنا على التخطيط للمستقبل البعيد"؟


يؤكد بوستروم أه علينا فعل الأمرين معاً، بمعنى، افعلوا هذه ولا تتركوا تلك.


يعتقد بوستروم أن العديد من التقنيات والاتجاهات التي يناقشها "الما- فوق- إنسانيين" هي حقيقة واقعة بالفعل. فقد غيرت التقنية الحيوية وتقنية المعلومات قطاعات كبيرة من اقتصاداتنا، كما تتجلى أهمية الأخلاقيات الما- فوق - إنسانية في القضايا المعاصرة مثل أبحاث الخلايا الجذعية، والمحاصيل المعدلة وراثياً، والعلاج الجيني البشري، وفحص الأجنة، وقرارات نهاية الحياة، والطب المعزز، وأسواق المعلومات، وأولويات تمويل البحوث. ومن المرجح أن تزداد أهمية الأفكار الما- فوق - إنسانية مع انتشار فرص تحسين الإنسان.

هل بوستروم فيلسوف أم عالم، مفكر استشرافي أم رؤيوي حالم؟
ربما هو كل هذا وأكثر. إنه رجل غزير الإنتاج ويعز على التصنيف.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

"الغد" تنشر الترجمة الكاملة لقرار "العدل الدولية"