العرب منقسمون بشأن قرار محكمة العدل الدولية‏‏

1708332985910063800
‏رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، يصل إلى القاهرة لحضور قمة السلام في تشرين الأول الماضي – (المصدر)‏

أسعد أبو خليل*‏ - (كونسورتيوم نيوز) 14/2/2024
يعتقد المعسكر العربي الليبرالي أن قرار محكمة العدل الدولية سيؤدي إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، في حين فقد المعسكر الشعبي الثقة في المنظمات الدولية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية.

*   *   *‏ ‏‏
‏سوف تبقى إسرائيل ملطخة إلى الأبد بوصمة الإبادة الجماعية، وسوف يظل مؤيدوها دائمًا متهمين بدعم الإبادة الجماعية بعد أن قضت محكمة العدل الدولية الشهر الماضي بأن هناك أدلة وجيهة وبائنة تبرر معقولية محاكمة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.

اضافة اعلان


وحتى جماعات الضغط الأجنبية القوية ستجد من الصعب إزالة وصمة العار.

 

وليس هذا غائبًا عن المواطنين الأميركيين الذين أنفقوا ملايين لا تعد ولا تحصى من الدولارات وسمعوا الكثير جدا من الأكاذيب لمواصلة دعم صورة للتفوق الأخلاقي.


‏لو كانت دولة عربية بدلاً من جنوب أفريقيا هي التي وجهت تهمة الإبادة الجماعية، لكانت الولايات المتحدة وغيرها من مؤيدي إسرائيل ليجابهوها بسهولة، مشيرين إلى سجل قاتم من انتهاكات حقوق الإنسان والقمع تلك الحكومة تلك الحكومة.


لكن هذه كانت جنوب أفريقيا التي برزت كقائدة أخلاقية -ليس للبلدان النامية فحسب، وإنما للعالم جميعا- يشهد على ذلك سجلها الخاص من الالتزام بحقوق الإنسان منذ نهاية نظام الفصل العنصري، والمعايير العالية للديمقراطية والمساواة المنصوص عليها في دستور البلد.

 

وقد أصبحت جنوب أفريقيا قوة أخلاقية عظمى، في حين اختُزلت الولايات المتحدة إلى مجرد متنمر.‏


‏الآن، أصبحت جنوب أفريقيا هي التي تقود "العالم الحر" وليس الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وتحالفهما من القوى الاستعمارية السابقة. أصبحت جنوب أفريقيا هي القوة العظمى الجديدة، ومن دون أسلحة نووية.

 

وليست قوتها الناعمة هي نفسها قوة أميركا التي تخفي تحت مظهرها المموه نزعة العدوان السافر والسعي إلى إخضاع البلدان الأخرى.


العرب منقسمون‏

 


‏ثمة معسكران عندما يتعلق الأمر بالموقف من حكم محكمة العدل الدولية في العالم العربي. من جهة، يصر المثقفون الليبراليون، الذين تمولهم الأنظمة الأوتوقراطية العربية و/ أو حكومات الناتو/ سوروس، على أن العرب يجب ألا يتخلوا أبدًا عن إيمانهم بـ"المجتمع الدولي" (وهي تسمية رمزية لمحور الإبادة الجماعية الذي يشكله حلف الناتو)، وبالقانون الدولي وحقوق الإنسان.‏


من الضروري لهذا المعسكر أن يعمل على دفع العرب بعيدًا عن الإيمان بفعالية الكفاح المسلح والمقاومة.

 

وهو يريد تقويض حركات المقاومة في الشرق الأوسط من خلال التأكيد أن هناك "عملية سلام"، وأن الغرب -مرة أخرى- جاد هذه المرة في التوصل إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية. ويعتبرُ هذا المعسكر قرار محكمة العدل الدولية فرصة أخرى للوصول إلى العدالة سلميًا من خلال المنظمات الدولية.‏


‏أما المعسكر الآخر من جهة أخرى، والذي يتحدث أكثر عن مشاعر الرأي العام العربي الحر، فيعتبر مفهوم القانون الدولي وحقوق الإنسان أدوات -بل وحتى حيلاً- تستخدمها الحكومات الغربية لترسيخ هيمنتها على شعوب الجنوب.‏


إنها تريد تخدير هذه الشعوب وخداعها للاعتقاد بأنه يمكن استعادة العدالة من خلال المحافل الدولية. وتشكل حقيقة أن إسرائيل تواصل إبادتها الجماعية في غزة بعد شهر من صدور قرار محكمة العدل الدولية، وأن الحكومات الغربية تواصل تأييدها ورعايتها لإسرائيل، شهادة على محدودية -بل وحتى العجز المطبق للمنظمات الدولية.‏


‏شعبية حماس‏

 


‏يشكل صعود ظاهرة حماس مظهرًا من مظاهر شعبية الإيمان بالكفاح المسلح. لقد أمضى العرب سنوات وهم يعانون من العدوان والاحتلال الإسرائيليين بينما يستسلمون لخديعة ما تسمى "عملية السلام" التي يفترض أن من شأنها أن تحل المشكلة الفلسطينية.‏


ثمة العديد من العرب الذين يحتفون بتشويه المحكمة الدولية لإسرائيل من خلال تعليق "ليبل" الإبادة الجماعية على حربها على غزة.‏


‏للمرة الأولى، يتم استخدام التصريحات التي تتضمن التحريض على الإبادة الجماعية التي أدلى بها القادة الإسرائيليون (تلك التصريحات التي تعود في الزمن إلى ما قبل تأسيس دولة الفصل العنصري)، كدليل قانوني على نية ارتكاب الإبادة الجماعية كما هي مُعرّفة بموجب القانون الدولي.‏


‏لكن العرب اعتادوا على حماية الولايات المتحدة لإسرائيل من جميع أشكال المساءلة القانونية الدولية. من خطة التقسيم التي وضعتها "الجمعية العامة للأمم المتحدة" في العام 1947 -عندما قامت الولايات المتحدة بتخويف ورشوة دول أخرى لإنتاج التصويت المرغوب فيه (انظر وليد الخالدي‏‏، "‏‏من الملاذ إلى الغزو" From Haven to Conquest‏)- وحتى أمر المحكمة الأخير في لاهاي، تلجأ الولايات المتحدة عادة إلى الرشوة والخداع والضغط والترهيب والتهديد بفرض عقوبات على الدول والأفراد حتى تحصل على ما تريد.‏


لم ‏‏يغب عن انتباه العرب أن دولة عربية واحدة لم تجرؤ على تقديم الدعوى إلى المحكمة الدولية لأنها تخشى غضب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الخاضعين. وقد أعربت بعض الدول في البداية عن استعدادها لإصدار وثائق داعمة في لاهاي، لكنها أصبحت تراوغ لاحقًا، وفقًا للتقارير‏.


‏وحتى السلطة الفلسطينية (التي تعتمد على تمويل حكومات حلف شمال الأطلسي وعائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل) اتبعت بطاعة الأوامر الأميركية فيما يتعلق بتهديداتها المتكررة بتحدي إسرائيل في المؤسسات والمحافل الدولية.


كان العرب مبتهجين لأن إسرائيل حصلت أخيرًا على "ليبل" الإبادة الجماعية، حتى لو أن المحكمة لم تحكم بأن إسرائيل قد ارتكبت بالفعل أعمال إبادة جماعية.

 

لكن طلب المحكمة من إسرائيل منع أعمال الإبادة الجماعية وتقديم تقرير في هذا الصدد بعد شهر، يشير إلى أن الدولة التي أعلن ديفيد بن غوريون أنها "نور للأمم" أصبحت تعتبر الآن منبوذة أخلاقيا -ربما ليس بالنسبة للحكومات الغربية، ولكن بالنسبة لمعظم الدول النامية وقطاعات واسعة من الرأي العام الغربي.


لقد تحولت وجهة المد

 


‏عندما جئتُ إلى الولايات المتحدة أول الأمر، كانت جميع الشرائح الديموغرافية من السكان الأميركيين تتماهى مع إسرائيل على حساب الفلسطينيين بنسبة 6 أو 7 إلى 1. واليوم، أصبح شباب الولايات المتحدة ‏‏منقسمين بشكل متقارب في الدعم بين حماس وإسرائيل.

 

ولم يكن من الممكن تصور هذه الأرقام قبل 40 عامًا فقط.‏


‏لقد اخترقت القضية التي أقامتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل جدارًا سميكًا من الحماية الغربية لإسرائيل.

 

وهي سابقة لا يمكن نقضها. لن تكون إسرائيل قادرة على غسل وصمة الإبادة الجماعية، بغض النظر عن عدد القرارات التي يصدرها الكونغرس الأميركي. ويدرك الناس في جميع أنحاء العالم أن الكونغرس الأميركي تابع لمنظمة اللوبي الصهيوني (أيباك).


لقد وقفت جنوب أفريقيا ضد الهيمنة الأميركية. وعلى الطريق، فتحت الطريق أمام الصين لحشد المزيد من الشجاعة للوقوف في وجه السيطرة الأميركية على المنظمات الدولية.


‏مع ذلك، ثمة حاجة إلى توخي الحذر. أولاً، لم يكن الحكم منطقيا كثيرًا. فقد حذر إسرائيل من ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، لكنه لم يدعُ إلى وقف فوري لإطلاق النار.

 

كما ترك الأمر لإسرائيل للإبلاغ عن أعمال الإبادة الجماعية التي تقوم بها هي نفسها. إن الإبادة الجماعية هي خرق خطير للغاية للقانون الدولي لدرجة أنه كان ينبغي على المحكمة أن تعيِّن لجنة خارجية خاصة لتولي مهمة الفصل في الأمر وعدم تركه لحسن نية إسرائيل.


على الرغم من شجاعة جنوب أفريقيا واستعداد محكمة العدل الدولية للتحقيق في التهمة، كانت إسرائيل متمتعة بالحماية من التحالف الغربي الذي أكد أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين (التي ظهرت فيها النية الواضحة للإبادة الجماعية) يجب عدم أخذها في الاعتبار لأنها لا تمثل سياسة رسمية.


‏تخيلوا فقط لو أنه تم تجاهل التصريحات النازية عن اليهود في نورمبرغ لأن هذا المسؤول النازي أو ذاك لا يمثل السياسة الرسمية. من المؤكد أن رئيس إسرائيل ووزير الدفاع أعلى بكثير من حيث التسلسل الهرمي الحكومي مما كان عليه أيخمان في النظام النازي.


يشكل هذا الحكم علامة أخرى فقط على أن النظام الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي آخذ في التفكك أمام أعيننا.

 

وينبغي تفكيك نظام الهيمنة والظلم الغربي من أجل مصلحة السلام والعدالة العالميين، ولا يمكن إلا لجمهورية جنوب أفريقيا أن تستجمع الشجاعة الكافية لخرقه بينما فشلت حتى الصين وروسيا في فعل ذلك.


‏لأغراض الدعاية، تلقي الولايات المتحدة بتهمة الإبادة الجماعية على أعدائها دائمًا -حتى عندما لا يكون هناك دليل. ولن يأخذ أي عربي، بل أي إنسان عاقل، على محمل الجد على الإطلاق، اتهام الولايات المتحدة للصين بأنها ترتكب إبادة جماعية ضد المسلمين.


في غزة، لدينا الآن أدلة فوتوغرافية واضحة على الإبادة الجماعية. إننا "نعرف ذلك عندما نراه"، على حد تعبير قاضي المحكمة العليا، بوتر ستيوارت، حول المواد الإباحية.


‏في الحقيقة، يشكل الحكم الأولي الذي صدر عن محكمة العدل الدولية (قد يستغرق إصدار الحكم النهائي أشهرًا وسنوات، مع عمل الولايات المتحدة للتأكد من أنه لن يأتي أبكر من ذلك) مَعلمًا سياسيًا، وإنما ليس معلمًا قانونياً دوليًا.


قدُماً يمضي القتل‏

 


‏ما تزال الإبادة الجماعية في غزة مستمرة بلا هوادة بعد صدر الحكم. ولا تُظهر الحكومة الإسرائيلية -بفضل الدعم الغربي غير المشروط- أي ضبط للنفس على الإطلاق في أعقاب الحكم.


‏لكنّ جنوب أفريقيا أظهرت أن الغرب ليس قدَر العالم: لا بدّ أن ينتهي احتكار الغرب للأخلاق الدولية من أجل شعوب العالم.

 

ولا شك أن الولايات المتحدة وإسرائيل (وبقية تحالف الإبادة الجماعية) غير سعيدين بالحكم، حيث تواصل الولايات المتحدة معارضة وقف إطلاق النار رسمياً بذريعة ادفاع إسرائيل عن النفس. ‏


هل سيجعل الحكم العرب، وشعوب الدول النامية بشكل عام، أكثر تقبلاً لفكرة اللجوء إلى العدالة الدولية؟ ‏


‏هذا مستبعد جدًا، خاصة وأن المحكمة لم تضع آلية لوقف الحرب العدوانية في غزة. وليس الأمر أن لديها القدرة على فعل ذلك. إن "المحكمة الجنائية الدولية" هي الهيئة التي أنشئت للتعويض عن افتقار محكمة العدل الدولية إلى سلطات التنفيذ التي تتمتع بها "المحكمة الجنائية الدولية"، وكانت هذه المحكمة الأخيرة، بفضل البلطجة الأميركية، نائمة طوال فترة هذه الحرب.


‏لقد أخذت جنوب أفريقيا زمام المبادرة من الفلسطينيين الشجعان في غزة. ورسالتهم: لقد حان الوقت لتغيير العالم.‏

‏*أسعد أبو خليل As`ad AbuKhalil: أستاذ لبناني أميركي للعلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، ستانيسلاوس. وهو مؤلف "القاموس التاريخي للبنان" Historical Dictionary of Lebanon (1998)؛ وفي (2002)، "بن لادن، الإسلام وحرب أميركا الجديدة على الإرهاب" Bin Laden, Islam and America’s New War on Terrorism، من بين كتب أخرى. أدار مدونة "العربي الغاضب" The Angry Arab الشهيرة.


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Arabs Divided on ICJ Ruling

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

"الغد" تنشر الترجمة الكاملة لقرار "العدل الدولية"