الحرب في أوكرانيا: روسيا تتفوق

المدرب والمقاتل في القوات الأوكرانية، الرقيب ميخائيل سوكولوف، بين أنقاض الحرب - (أرشيفية)
المدرب والمقاتل في القوات الأوكرانية، الرقيب ميخائيل سوكولوف، بين أنقاض الحرب - (أرشيفية)

واجهت موسكو صعوبة في تغيير مسار الحرب في بداياتها لكنها تتفوق الآن على كييف.


خاضت كل من كييف وموسكو معركة تكيف طوال فترة الحرب في أوكرانيا، في محاولة للتعلم وتحسين فعاليتهما العسكرية. وخلال المراحل الأولى من الغزو، كانت أوكرانيا أفضل من روسيا في هذا المجال.

اضافة اعلان

 

فمع تمكين كييف عن طريق التدفق السريع للأسلحة الغربية، والتهديد الوجودي الذي يفرضه العدوان الروسي، والاستعداد الجيد للهجوم، استطاعت أن تطور طرقاً جديدة للقتال في وقت قصير للغاية.


على النقيض من ذلك، تخبطت روسيا التي كانت أشبه بدب كبير متعجرف ومتثاقل ومفرط في الثقة بأنه سيحقق نصراً سريعاً. وأدت الصدمة المؤسسية الناجمة عن فشل روسيا إلى إبطاء قدرتها على التعلم والتكيف.


ولكن، بعد مرور عامين على بداية الحرب، اختلفت معركة التكيف ولحقت روسيا بركب أوكرانيا نوعاً ما.

 

وما تزال أوكرانيا تتمتع بثقافة عسكرية ابتكارية من القاعدة إلى القمة، مما يسمح لها بتطبيق تقنيات وتكتيكات جديدة في ساحة المعركة على نحو سريع، غير أنها قد تواجه صعوبة في التأكد من أن تكون هذه الدروس ممنهجة ومنتشرة في أوساط وحدات القوات المسلحة بأكملها.

 

ومن ناحية أخرى، تظل روسيا أكثر بطئاً في التعلم من القاعدة إلى القمة بسبب التردد في الإبلاغ عن الفشل وفلسفة القيادة الأكثر مركزية. ومع ذلك، عندما تتعلم روسيا شيئاً في نهاية الأمر، فإنها تكون قادرة على تنظيمه بصورة منهجية في أوساط الجيش وعبر صناعتها الدفاعية الكبيرة.


تتجلى هذه الفروق بين الدولتين في الطرق التي تبتكر بها كل منهما. وما تزال أوكرانيا أقدر على القيام بالتكيف التكتيكي، أي التعلم وتحسين الأداء في ساحة المعركة.

 

لكن روسيا تتفوق عليها في التكيف الإستراتيجي أو التعلم والتكيف اللذين يؤثران في عملية صنع السياسات الوطنية والعسكرية، على غرار كيفية استخدام الدول لمواردها.


كلا شكلي التكيف مهمان، غير أن النوع الأخير هو الأكثر أهمية من أجل كسب الحروب. وبقدر ما يطول أمد هذه الحرب بقدر ما تحقق روسيا مزيداً من التعلم والتكيف وبناء قوة قتالية أكثر فعالية وحداثة.

 

وعلى نحو بطيء، وإنما بثبات، ستستوعب موسكو أفكاراً جديدة من ساحة المعركة وتعيد ترتيب خطواتها التكتيكية بما يتناسب مع ذلك.

 

وقد ساعدها تكيفها الإستراتيجي مسبقًا في صد الهجوم الأوكراني المضاد، وأعان القوات الروسية على امتداد الأشهر القليلة الماضية في الاستيلاء على مزيد من الأراضي من كييف. وفي نهاية المطاف، إذا استمر تفوق روسيا في التكيف الإستراتيجي من دون استجابة غربية مناسبة، فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث في هذه الحرب ليس الجمود أو عجز أي طرف عن تحقيق النصر، وإنما هزيمة أوكرانيا.


اللعبة الطويلة

 


بعد الصعوبات التي واجهتها روسيا خلال عملياتها العسكرية المبكرة في أوكرانيا، عمدت إلى تعديل هيكل القيادة والسيطرة لديها.

 

في نيسان (أبريل) 2022، عينت موسكو قائداً واحداً للإشراف على غزوها واسع النطاق، متخلية بذلك عن النظام المختل والممزق الذي كانت قد أدارت الحرب به حتى تلك اللحظة.

 

وكانت النتيجة جعل جهودها موحدة بصورة أكبر، مما أدى إلى تحويل الغزو الروسي من مجموعة حملات متعددة، منفصلة وغير منسقة في شمال وشرق وجنوب البلاد إلى نهج أكثر تزامناً وتنسيقاً.

 

ومن الواضح أن الجهد الرئيسي كان يتمثل في العمليات البرية في شرق أوكرانيا، وتمخض عن تقدم روسي واستيلاء على مدن مثل سيفيرودونيتسك في منتصف العام 2022.


كما غيرت روسيا أيضاً طريقة إدارتها للقتال المباشر عن كثب، فاستخدمت في وقت مبكر من الحرب أسلحة مشتركة ووحدات برية كل منها بحجم كتيبة، والتي لم تكن في كثير من الأحيان قوية بما فيه الكفاية.

 

كما كانت قدرتها محدودة على دمج العمليات الجوية والبرية وتنفيذ عمليات الأسلحة البرية المشتركة.

 

غير أن الروس طوروا أداءهم على مدى الأشهر الـ12 الماضية في معزل عن هذا النوع من الكتائب.

 

وهم يقومون الآن بدمج قوات النخبة والقوات التقليدية معا. كما يقومون بتدعيم هذا المزيج بقوات يسميها كثير من الأوكرانيين بسخرية، "عاصفة اللحم"، وهي  عبارة عن موجات من القوات سيئة التدريب التي يمكن التخلص منها وبمقدورها أن تغمر الجنود الأوكرانيين وترهقهم قبل وصول مزيد من القوات الروسية المحترفة.


كان بعض هذا الابتكار التكتيكي مدفوعاً بالضرورة العسكرية، بما في ذلك ضيق الوقت المتاح لروسيا لتدريب القوات التي تم حشدها لتصبح على مستويات عالية من الكفاءة.

 

غير أن بعضه كان يستند إلى توجيهات استراتيجية صادرة من أعلى إلى أسفل. وقد ساعد قادة مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية في الترويج لنهج "تكتيكات اللحم" من خلال تجنيد عناصر انضموا إليها بعد إدانتهم بارتكاب جرائم، واستخدامهم في الحملة الناجحة للاستيلاء على باخموت، كما لو كانوا صيادين للرصاص الذي يتلقونه بأجسادهم بالنيابة عن المقاتلين المدربين، باعتبار أنهم يمكن التخلص منهم.


بعد أن شاهدت النجاح الذي حققته مجموعة "فاغنر" بتطبيق هذه الاستراتيجية البشعة، تبنت قوات موسكو أساليب مماثلة في معارك أخرى.

 

وغيرت قوات المشاة الروسية تكتيكاتها؛ فبدلاً من محاولة نشر مجموعات كتائب موحدة كمجموعات أسلحة يعمل بعضها إلى جانب بعض، أصبحت تقوم بتشكيل فرقة طبقية مؤلفة من قوات هجومية متخصصة، وإلى جانبها "قوات اللحم" القابلة للتخلص منها.


كما تكيفت القوات الروسية على المستوى الدفاعي أيضاً. فبعد أن كانت تحصن مواقعها بصورة طفيفة فقط في وقت مبكر من الحرب، وبالتالي تجعل نفسها مكشوفة أمام الهجمات الأوكرانية، قامت موسكو ببناء خطوط دفاعية عميقة في الجنوب في أواخر العام 2022 ومطلع العام 2023.

 

وإلى جانب ذلك، أسهمت التحسينات الروسية في تقصير الوقت الذي يفصل بين اكتشاف الهدف وتنفيذ الضربات في ميدان المعركة، مما جعل الأوكرانيين يواجهون في النصف الثاني من العام 2023 خصماً مختلفاً تماماً عن ذلك الذي واجهوه في العام 2022.


وللتغلب على هذا العدو الذي طور نفسه، اضطرت أوكرانيا إلى تعديل خططها التكتيكية وتقنياتها وعملياتها وتكييفها، جزئياً عن طريق إرسال بعض القوات إلى بولندا ودول أوروبية أخرى للخضوع إلى تدريب إضافي مشترك على الأسلحة قبل بدء الهجوم المضاد.

 

بيد أن جهود كييف كانت غير كافية لإنجاز مهمة استعادة المزيد من مناطق الجنوب.


روسيا لحقت بركب أوكرانيا

 


بالإضافة إلى ما سبق، نجح الجيش الروسي أيضا في توفير حماية أفضل لمركباته. خلال الأيام الأولى من الحرب، استخدمت أوكرانيا طائرات مسيرة وصواريخ دقيقة بغرض تدمير الكثير من الدبابات والشاحنات الروسية بنجاح، مما أدى إلى مجموعة من الهزائم الروسية المحرجة.

 

لكن القوات الروسية بدأت، رداً على ذلك، في صنع دروع مؤقتة كيفما اتفق.

 

وبعد تعرض أعداد كبيرة من المركبات اللوجستية الروسية للهجوم أثناء التقدم نحو كييف، بدأت القوات بتركيب دروع مؤقتة لهذه الشاحنات لحمايتها.


وفي النهاية، اكتسب هذا الدرع المؤقت مزيداً من التطور باستخدام ما أصبح يُطلق عليه اسم "أقفاص المواجهة"، والدرع الشرائحي أو الدرع على شكل قفص. وكان هذا النوع من الدروع قد ظهر للمرة الأولى على الدبابات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها استخدمت أيضاً في الصراعات الحديثة، بما في ذلك من قبل قوات التحالف التي قاتلت في حرب العراق العام 2003، وهي الآن تستعمل على الدبابات الروسية والمدفعية ذاتية الدفع.

 

وقد ساعدت هذه الأقفاص إما في سحق صمامات الأسلحة المضادة للدبابات الأوكرانية قبل أن تصيب التصفيح الرئيسي للمركبة، أو أنها أجبرت الأسلحة المضادة للدبابات على الانفجار قبل أن تتمكن من اختراق المركبة.

 

كما أمنت هذه الأقفاص مجتمعة طبقة أخرى من الحماية المادية للدبابات والشاحنات الروسية، ويبدو أنها منحت طواقمها مزيداً من الثقة للعمل في أماكن يوجد فيها خطر كبير من هجمات الطائرات من دون طيار أو من الذخائر المسماة بـ"المتسكعة".


ربما بدأ هذا النهج الدفاعي كابتكار تكتيكي، إلا أن الاعتماد على الأقفاص أصبح في نهاية المطاف إجراء معياريا ومنظما بطريقة منهجية.

 

وكانت وحدات الجيش الروسي بصورة جماعية تستخدم الأقفاص كوسيلة نظامية لصد الذخائر المتسكعة (مثل المسيرات المتفجرة)، وصواريخ الهجوم التي تأتي من الأعلى مثل "جافلين"، والطائرات من دون طيار.


وفي العام 2023، أصدر القادة الروس توجيهات رسمية حول كيفية بناء أقفاص للشاحنات والمدفعية والمركبات المدرعة وتركيبها، وتعرض موسكو الآن مثل هذه الأقفاص على نسخ من مركباتها المدرعة المخصصة للتصدير.


في غضون ذلك، تحسن بصورة كبيرة قيام موسكو نفسها بنشر واستخدام الطائرات من دون طيار، وبطريقة عكستدينامية سابقة.

 

ففي بداية الحرب، ساعدت أوكرانيا في ابتكار طرق جديدة لاستخدام الطائرات من دون طيار التي يتم التحكم فيها عن بعد وشبه المستقلة للقيام بكل شيء، بدءاً من إجراء الاستطلاع وحتى إسقاط القنابل.


كان "جيش الطائرات المسيرة" في أوكرانيا الذي سمى نفسه هكذا، وهو ثمرة تعاون بين الحكومة والصناعة والتمويل الجماعي من المواطنين، قد أعطى كييف أفضلية مبكرة مثيرة للإعجاب بصورة خاصة في عمل الطائرات من دون طيار.

 

ولكن، على الرغم من أن روسيا كانت أبطأ في الاعتماد على الطائرات المسيرة لتنفيذ مجموعة واسعة من الأغراض، فقد تفوقت الآن على أوكرانيا من حيث عدد الطائرات من دون طيار والذخائر المتسكعة وقدرة روسيا على استخدامها.

 

وقد فعلت موسكو ذلك من خلال تعبئة صناعتها الدفاعية المحلية والحصول على التكنولوجيات الحيوية من الخارج على الرغم من العقوبات الغربية، وهي الآن تتفوق على أوكرانيا عندما يتعلق الأمر بصناعة الطائرات من دون طيار والذخائر المتسكعة، وستستمر هذه الفجوة غالباً في الاتساع.


تكاد الحرب الحديثة تكون مستحيلة ما لم يتم نشر أعداد كبيرة من هذه المركبات الجوية غير المأهولة من دون طيار أثناء التصدي بنشاط لطائرات العدو المسيرة.

 

وكان السبب الرئيس وراء فشل الهجوم الأوكراني المضاد في 2023 هو استخدام روسيا للطائرات من دون طيار بصورة منسقة مع خطوطها الدفاعية، واستعمال قدر كبير من قطع المدفعية والمروحيات الهجومية والذخائر المتسكعة وأنظمة الاستطلاع والمراقبة الأكثر استجابة.

 

وبينما تتعلم روسيا وتستمر في زيادة إنتاجها من الطائرات من دون طيار، فإنها ستكتسب مزيداً من الأفضلية على الطرف الآخر.


تسريع الوتيرة

 


ليست الطائرات من دون طيار هي السلاح الوحيد الذي قلبت بواسطته روسيا السيناريو رأساً على عقب، فقد كانت أوكرانيا من أوائل الدول التي اعتمدت الأسلحة الدقيقة أو الأسلحة التي تستخدم نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أو أنظمة التوجيه الأخرى من أجل ضرب الأهداف بصورة أكثر دقة مما كانت توفره الأنظمة القديمة، وكان على كييف أن تكون كذلك.

 

ونظراً إلى التفاوت في القدرات المدفعية والذخائر في بداية الحرب، لم يكن بوسع أوكرانيا أن تتحمل تبديد ما لديها من الصواريخ والقذائف، إلا أن موسكو تعلمت منذ ذلك الحين وتكيفت للحد من تأثير الأسلحة الدقيقة، وقد فعلت ذلك من خلال توزيع قواتها القتالية والمدفعية والخدمات اللوجستية توزيعاً أفضل.

 

كما أنها جعلت عملية الاستهداف الأوكرانية أشد تعقيداً باستخدام وسائل أكثر أماناً للاتصالات الإلكترونية، بما في ذلك الشبكات المشفرة وأنظمة الاتصالات التكتيكية السلكية القديمة.


كانت الحرب الإلكترونية إحدى نقاط قوة الروس تقليدياً، إلا أنها لعبت دوراً ثانوياً خلال الأيام الأولى للغزو، وعادت بقوة مع تعاون الجيش الروسي مع صناعته الدفاعية الإستراتيجية بغرض تطوير مجموعة من أنظمة الحرب الإلكترونية الجديدة والمتقدمة التي تقوم على المركبات والأفراد ونشرها. وتعمل هذه الأنظمة على تشويش الاتصالات الأوكرانية من أجل كسر التماسك في الوحدة العسكرية، وإبطاء قدرة البلاد على شن الهجمات.

 

كما تقطع الحرب الإلكترونية أيضاً الصلة بين الطائرات من دون طيار ومشغليها وتساعد روسيا في العثور على محطات مشغلي الطائرات المسيرة، وتجعل من الصعب على أوكرانيا تحديد موقع المقر الرئيسي الروسي.


ومن المهم أيضاً أنها تشوش أو تقلل من فعالية الأسلحة الدقيقة الأوكرانية (بما في ذلك أنظمة صواريخ المدفعية عالية الحركة أو HIMARS).

 

وعلى الرغم من أن أوكرانيا وشركاءها قد عملوا بجد لمواكبة قدرات الحرب الإلكترونية الروسية، إلا أنها تظل متخلفة عنها في هذا المجال، وهي نقطة أشار إليها القائد العام الأوكراني فاليري زالوجني في أواخر العام 2023.


لعل المجال الأكثر دلالة الذي تكيفت فيه روسيا وخلقت ميزة إستراتيجية هو مجمعها الصناعي الدفاعي. وقد أدت التعبئة الجزئية للبلاد في أيلول (سبتمبر) 2022 والمبادرات الحكومية الأخرى إلى زيادة الإنتاج العسكري بصورة كبيرة.

 

كما تلقت موسكو مزيداً من الأسلحة التي جاءتها على شكل مساهمات من كوريا الشمالية، وعززت تصنيع أسلحتها المتطورة من خلال زيادة التجارة مع الصين، مما سمح لروسيا بالحصول على تقنيات مزدوجة الاستخدام لم يعد بإمكانها شراؤها من الغرب.

 

ونتيجة لذلك، تملك روسيا الآن أسلحة وذخائر أكثر بكثير من تلك التي في حوزة أوكرانيا.


الحرب الإلكترونية عادت بقوة

 


من المؤكد أن روسيا ليست أفضل من أوكرانيا من حيث التكيف في المجالات كافة. وعندما يتعلق الأمر بالطرق الجديدة لتوجيه ضربات بعيدة المدى، فقد تحسنت كييف أكثر من موسكو.

 

وقد طورت أوكرانيا، على سبيل المثال، القدرة على القيام بضربات إضافية بعيدة المدى ضد المطارات الروسية ومصانع الدفاع والبنية التحتية للطاقة خلال العام الماضي.

 

وبينما كانت عاجزة إلى حد كبير عن الرد على الضربات الروسية التي استهدفت بنيتها التحتية المدنية خلال شتاء العام 2022، فقد باتت تتمتع حالياً بقدرة متطورة على الاستجابة بضربات مماثلة (وإن كان ذلك بما ينسجم مع القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على استخدام الأسلحة الغربية للقيام بغارات داخل روسيا).

 

وقد استعملت كييف هذه القدرة من خلال ضرب روسيا بصورة حكيمة، وخصوصاً في أعقاب هجمات موسكو الجماعية على أوكرانيا خلال عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة.


كما طورت أوكرانيا قدرة مؤثرة في مجال توجيه الضربات البحرية باستخدام أجهزة استشعار عسكرية ومدنية وصواريخ بعيدة المدى، بالإضافة إلى أجيال متتالية من الطائرات البحرية من دون طيار.

 

وصار الآن بوسع هذه الطائرات البحرية من دون طيار أن تطلق الصواريخ، بالإضافة إلى صدم الأهداف ثم تفجير رؤوسها الحربية. ونتيجة لذلك، دمرت أوكرانيا الكثير من السفن الحربية الروسية، كما أنشأت ممراً جديداً للتصدير البحري غرب البحر الأسود.


إلا أن هذه المزايا قد لا تدوم. وكما فعلت روسيا في مجالات أخرى، فمن المرجح أن تتكيف مع هذه التطورات الأوكرانية.

 

وتغير روسيا حاليا، على سبيل المثال، طبيعة هجماتها المعقدة والمكثفة بالطائرات من دون طيار والصواريخ وتوقيتها أيضاً، وذلك لتحديد نقاط الضعف في نظام الدفاع الجوي الأوكراني.

 

كما قامت بتكييف بعض صواريخها الكروز، مثل صاروخ Kh-101، لتصبح قادرة على إطلاق قنابل مضيئة. وهذه آلية وقائية ضد الضربات الأوكرانية.


التدمير الخلاق

 


عمل المجمع العسكري الروسي على تطوير دورة تكيف معززة ومتطورة باستمرار، والتي تربط الدروس المستقاة من ساحة المعركة بالصناعة والاستراتيجيات الروسية بطريقة تمنح الروس تفوقاً عسكرياً كبيراً خلال العام المقبل.

 

وإذا تُرك ذلك من دون معالجة، فإنه يمكن أن يعطي روسيا أفضلية تجعلها تنتصر في الحرب.

 

وربما ينتهي الأمر بروسيا إلى اكتساب قدرة محسنة على توجيه الضربات من السماء، مما قد يؤدي إلى الهيمنة على نظام الدفاع الجوي الأوكراني العاجز عن إطلاق ما يكفي من الصواريخ الاعتراضية، وإلى جعل التقدم وإرهاب المواطنين الأوكرانيين أكثر سهولة بالنسبة إلى روسيا.

 

ومن الممكن أن يقود ذلك إلى تحقيق مزيد من المكاسب الروسية على الأرض مع سيطرة موسكو على مساحات أخرى من الأراضي في الشرق بخاصة، لكنها ربما تنتزع أيضاً أراضي في الجنوب.


ومن المستبعد أن تتم السيطرة على كييف على المدى القصير، لكن موسكو تتطلع في نهاية المطاف بصورة أكبر إلى تغيير الحسابات السياسية في كييف لتكون أكثر ملاءمة لروسيا بدلاً من أن تقبل بها كما هي.


لتجنب هذا المصير، يتعين على أوكرانيا أن تسعى إلى بناء نهج إستراتيجي خاص بها في التعامل مع التعلم والتكيف، وهو النهج الذي يمكن أن يكون استكمالاً مناسباً لتاريخها الرائع في التكيف القتالي. كما تستطيع الوحدات الأوكرانية أن تبدأ في مشاركة حالات التكيف الناجحة مع الوحدات الأوكرانية الأخرى بوتيرة أسرع.


وعلى الرغم من أن الوحدات الأوكرانية ترسل في كثير من الأحيان الدروس إلى المستفادة إلى الألوية التي تبعث بها بعد ذلك إلى المقار العليا، فإنه يتعين على المؤسسة العسكرية أيضاً أن تؤكد على ضرورة المشاركة الأفقية.


لا يقلل تبادل الدروس عبر الوحدات العسكرية الوقت اللازم للقوات للتعلم وحسب، بل إنه يساعد أيضا في توحيد الخطط التكتيكية.

 

ومع ذلك، لا بد من أن يشارك كبار القادة في إنشاء نظام أفضل للتعلم الأفقي (ولتوحيد التكتيكات). وسيكون من الضروري أن تصدر الأوامر من أعلى مستويات القوات المسلحة الأوكرانية إلى الجنود بتبادل مزيد من المعلومات.


من أجل أن تصبح أوكرانيا أفضل في التكيف الإستراتيجي، يتعين عليها أيضاً أن تعمل على إزالة العقبات المؤسسية وتلك المتعلقة بالتوقيت اللتين تفصلان بين التعلم التكتيكي والإبداع العقائدي والتدريب.

 

وعلى سبيل المثال، يتمثل أحد الدروس الرئيسة المستخلصة من الهجوم المضاد الأوكراني في العام 2023 في أن عقيدة الأسلحة المشتركة التي علّمها حلف شمال الأطلسي (ناتو) للقوات الأوكرانية صارت بالية وعفا عليها الزمن. ونتيجة لهذا الفشل، افتقر الأفراد والوحدات الأوكرانية إلى التحصين الفكري اللازم من أجل القيام بعمليات هجومية في ظل الظروف الحديثة.

 

ومن الضرورة بمكان أن يعمل حلف الـ"ناتو" وأوكرانيا على تسريع وتيرة تبادل الدروس القتالية وربطها بالعقيدة ومؤسسات التدريب حتى يتمكن الطرفان من التوصل بسرعة إلى عقائد أفضل وأشكال أفضل للتدريب.

 

وينبغي على الـ"ناتو"، بصورة خاصة، أن يستخدم قدراته التحليلية الهائلة بغرض مساعدة الأوكرانيين في التعرف سريعاً على الحلول الناجحة.

 

ومن خلال إقامة الصلة على نحو أفضل بين الدروس التكتيكية من جهة والتغيرات الإستراتيجية من جهة ثانية، يستطيع الغرب أن يعيد صياغة الكيفية التي تُدار بها هذه الحرب على النحو الذي يجعل من الأسهل كثيراً على أوكرانيا أن تتكيف مع استراتيجيتها الحربية الشاملة.


روسيا تمسك حاليا بزمام المبادرة الإستراتيجية، بطبيعة الحال، يجب على الغرب أيضاً أن يستمر في تسليح أوكرانيا بأسلحة متقدمة. ولكن، على الرغم من أهمية زيادة الإمدادات الغربية بصورة عامة، فمن الأهمية بمكان أن يركز الغرب على إنتاج الأسلحة التي من المرجح أن توفر لكييف أفضلية استراتيجية وإرسالها إليها.

 

ولذلك، يجب عليه إنشاء علاقة أقوى بين التعلم التكتيكي الأوكراني والإنتاج الصناعي، وينبغي أن تنتقل الدروس القتالية بسرعة من ساحة المعركة إلى الشركات المصنعة، مما يجعل من السهل على الجنود التأثير في إنتاج المعدات والذخائر.

 

(يتعين على أوكرانيا وحلفائها في الوقت نفسه أن يحاولوا التدخل في قدرة روسيا على استخدام الدروس التكتيكية لتحسين الإنتاج الدفاعي، بما في ذلك العبث بسلاسل التوريد في موسكو).


وأخيرا، يتطلب الأمر من أوكرانيا عموماً أن تزيد من السرعة التي تنشر بها التعديلات الجديدة التي اقتضى إجراؤها التكيف. إن إحدى نقاط الضعف الرئيسة الباقية لدى الجيش الروسي هي أن "هيكله يصبح أفضل مع مرور الوقت في إدارة المشكلات التي تواجهه في الحال، ولكنه أيضاً هيكل يكافح من أجل توقع تهديدات جديدة"، كما جاء في تقرير صدر أخيراً عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة. ويشكل ذلك ثغرة كبيرة في الدرع الإستراتيجية الروسية.

 

فهو يعني أنه على الرغم من تحسن قدرة روسيا على الاستجابة للتحديات، إلا أنها ما تزال في موقف حرج.

 

وللاستفادة من هذا العيب، يتعين على أوكرانيا أن تقدم تعديلاتها الجديدة وتنظمها بسرعة حتى تتمكن من إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بروسيا قبل أن تتعلم موسكو كيفية الرد.


إن إجراء هذه التحسينات لن يكون سهلاً، حيث تملك كل المؤسسات قدرة محدودة على استيعاب التغيير خلال فترة قصيرة من الزمن، وهو ما يسميه العالم السياسي مايكل هوروفيتز "القدرة على التبني".

 

وقد قام الأوكرانيون سلفاً بإجراء مجموعة هائلة من التعديلات المتنوعة في هذه الحرب. وليس من المفيد أن يكون التكيف متعدد الوجوه وشاملاً لكي ينجح حقاً.


كتب المؤرخ والمحلل العسكري، تي إكس هامز، في تقرير صدر في نيسان (أبريل): "إن التكنولوجيا الناشئة هي أمر حيوي لكل قدرة".

 

وأضاف: "ولكن، مثل تطوير الحرب الخاطفة أو طيران الناقل، لا يمكن تحقيق هذه القدرات التحويلية إلا من خلال الجمع بين كثير من التقنيات بصورة فعالة وتطبيقها من خلال مفاهيم تشغيلية متماسكة يتم التدرب عليها جيداً"، ويتطلب هذا قيادة جيدة، بالإضافة إلى التجريب السريع والتواضع للتعلم من الأخطاء.


ليس لدى أوكرانيا وقت لتضيعه في تنفيذ هذه التدابير. فقد حسنت روسيا بصورة كبيرة قدرتها على التعلم والتكيف في أوكرانيا. وكلما طال أمد الحرب في أوكرانيا تمكنت موسكو من جعل تكيفها الإستراتيجي أفضل.

 

ولعل المبرر الأكثر إقناعاً من أجل رفع مستوى التكيف الاستراتيجي في أوكرانيا وعرقلة التكيف الإستراتيجي في روسيا هو ضمان عدم خسارة أوكرانيا الحرب، حيث تمسك روسيا حالياً بزمام المبادرة الاستراتيجية. ولذلك، ولسوء الحظ، ما تزال الهزيمة نتيجة محتملة.

*ميك رايان: خبير إستراتيجي عسكري ولواء متقاعد من الجيش الأسترالي، وزميل مساعد في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. مترجم عن مجلة "فورين أفيرز"؛ حيث نشر في 5 شباط (فبراير) 2024.

 

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

  الحرب في أوكرانيا لم تنته بعد