أصابع الزمار

يعتقد سياسيون ورجال دولة أن الاستقالة أو الإقالة من الموقع الرسمي لا تعني الخروج من الحياة العامة. هذا الاعتقاد صحيح نظريا بالنسبة للسياسيين المحترفين الذين يملكون برامج ورؤى تتعلق بحاضر ومستقبل الدولة والمجتمع، لكنه في حالتنا، اعتقاد مثير للشفقة والسخرية في آن حين يترجم عمليا في سعي بعض المطرودين القابعين في العتمة، للعودة إلى دائرة الضوء، ولو من خلال الانخراط في لعبة المماحكات المكشوفة وتدبير المؤامرات الصغيرة وصناعة الأوهام بعودتهم إلى مركز القرار، وهم يعرفون جيدا صعوبة أو حتى استحالة هذه العودة غير الميمونة.اضافة اعلان
ينطبق على هؤلاء المثل القائل إن "الزمار يموت وأصابعه تلعب"، وقد ماتوا سياسيا منذ خرجوا من مواقع المسؤولية، ولم يعد لهم أي حضور حقيقي إلا في الحوارات حول العجز والتقصير وسوء استخدام الموقع.. وشبهات الفساد، لكنهم يخدشون سكينة المشهد بين الحين والآخر بعشاء في مطعم فاخر أو لقاء بمحض الصدفة المصطنعة في بيت عزاء، وحديث يتجاوز مفردات المجاملة إلى الخوض في الشأن العام وإطلاق الاتهامات ضد الآخرين والتشكيك في كفاءة من يجلسون على كراسيهم السابقة، وتحريض مريديهم على تفجير المعارك الصوتية مع أعداء وهميين.
يوجد أمثال هؤلاء في كل العواصم، ولو نطقت جدران صالونات ومقاهي ومطاعم بيروت لتكشف ما يدور في لقاءات شبيهة لشبع اللبنانيون ضحكا، ولظل الأمر مجرد مادة للتسلية في الجلسات الترفيهية، لكن الأمر مختلف عندنا لأن هؤلاء يجدون من يأخذهم على محمل الجد، ولأن مريديهم لا يخجلون من رفع الصوت الملوث في فضاء المدينة، ولأن الانتصار على الفساد يتجسد فقط في صور منشورة لرجل سمين ومريض مقيد اليدين بكلبشات لم تلمس رسغا آخر، ولم تتحول إلى أساور تليق تماما بفاسدين حقيقيين، لا يجلبون ولا يستجوبون.
هذه شريحة يساهم استمرار وجودها على هامش الحياة السياسية في إضعاف دور النخب السياسية الحقيقية الجادة، ما يعيد الحوار إلى بداياته وبدائيته، ويبعد التحليل عن الرزانة ليبقيه في خانة الرطانة وإشاعات المقاهي.
لدينا أيضا شريحة أخرى من المسؤولين السابقين والحاليين الذين يحتفظون بكامل هيبتهم في مكاتبهم، ويتحررون من جديتهم بعد انتهاء الدوام حين يلتقون بالعشرات في دعوة عشاء أو حفل عيد ميلاد أو حفل تخريج من الحضانة يدعو إليه شخص هامشي لا يجيد شيئا غير الابتسام للكاميرا.
يدهشنا غياب هؤلاء عن المشاركة الجدية والفاعلة في حوارات التطوير التي تنخرط فيها النخب السياسية والاقتصادية والثقافية على مستوى الوطن كله، وحضورهم البهي في حفلات يصعب التمييز فيها بين أصحاب الدولة وأصحاب المعالي والباشوات وأصحاب السعادة والعطوفة، ومناسبات أقصى درجات العصف الذهني في تذكر ألقاب المدعوين وتحديد أماكن جلوسهم.
في الحالتين نلمح نوعا من الشبق للضوء ينتج المزيد من العتمة.