خط الدم الأفغاني-العراقي-الصومالي

في الخط الممتدّ بين أفغانستان، في الشمال الشرقيّ، والصومال، في الجنوب الغربيّ، يقع العراق. والبلدان الثلاثة يجمع بينها أنها على مقربة من حرب أهليّة مفتوحة. فهي إما في قلب تلك الحرب، أو تتأهّب للانخراط فيها، أو أنها خرجت منها للتوّ لتعاود دخولها بهمّة أعلى.

اضافة اعلان

ففي أفغانستان، تجدّد حركة "طالبان" انبعاثها من خلال عدد متلاحق من العمليّات العسكريّة، تصحبه الدعوات الى جهاد لم يُعرف له مثيل من قبل. وغني عن التذكير أن البلد المذكور كانت قد افتُتحت به الحروب الأميركيّة التي اندلعت بُعيد جريمة 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فأطيح نظامه الطالباني وعاد الى الصدارة أمراء الحرب القدامى. لكن الوضع الجديد لم ينجح في التغلّب على المشكلات الوطنيّة الأكثر تعقيداً واستعصاء. هكذا استرجعت زراعة الأفيون عزّها، بالغةً الى ذرى غير مسبوقة، وفائضةً على أسواق العالم بأسره.

كذلك، لم تتمكن القوات الأميركيّة والمتحالفة معها من إلقاء القبض على أسامة بن لادن ومساعده أيمن الظواهري اللذين لا يزالان، بين الفينة والأخرى، يتحفاننا بطلّة بهيّة على التلفزيون، أو بتسجيل صوتيّ. وعلى رغم انضواء أفغانستان وباكستان، في موقف استراتيجي واحد حيال الارهاب والاصطفافات الدوليّة، تفاقم نزاع البلدين واشتدّ، فمضى الأفغان في اتهام الباكستانيين بإيواء القادة الطالبانيين، فيما راح النظام العسكري في باكستان يتهم نظام حامد كرزاي في جواره بالتقصير في خوض المجابهة.

ووراء ذلك أن كلاً من النظامين يسعى الى رمي إخفاقه على الآخر، والامتناع عن مواجهة مسؤوليّته. لكن هذا لا يكفي لتأويل ما يجري ما لم يُقرن بحقيقة الانتشار البشتوني في البلدين، واتصال البشتون، من ثم، على نحو عابر للحدود الوطنيّة. و"طالبان"، كما نعرف، ينتمون الى الإثنيّة الباشتونيّة في النصف الجنوبي من البلد، كما يعبّرون عن حساسيّتها الراديكاليّة الأشدّ احتقاناً، الأمر الذي يفسّر التحاق قلب الدين حكمتيار، وهو بشتوني بدوره، بهم.

أما الصومال، فلم يتعرّض لحرب أميركيّة وإن تعرّض لتدخّل رعته الأمم المتحدة عام 1993 وانتهى بالانسحاب بعد عامين شهدا معارك ضارية ضد قوات محمد فارح عيديد والميليشيات الأخرى. والحال أن الصومال، الذي استقل عام 1960 بعدما تشكّل من لصق مستعمرة بريطانيّة الى أخرى إيطاليّة، لم يعرف أية سلطة مركزيّة مستقرّة منذ سقوط حاكمه الديكتاتوري محمد زياد برّي عام 1991. فقد عاث بمناطقه أمراء الحرب الإثنيّون والجهويّون ممن انضاف اليهم، في السنوات القليلة الماضية، المسلّحون الأصوليّون من أتباع المحاكم الشرعيّة. وهذا كلّه يتصل بخلفيّة ترقى الى سنة الاستقلال، 1960، حيث استحال بناء علاقات صحيّة مع الجارين الأثيوبي والجيبوتي. ذاك أن النزاع على ترسيم الحدود التي لم تتطابق مع انتشار القبائل وتواصُلها السكنيّ، تأدّى عنه توتّر دائم بلغ أوجه الانفجاريّ مع حرب أوغادين في السبعينيات.

والعراق، كما نعلم، وُلدت تجربته الجديدة من رحم الحرب الأميركيّة التي أسقطت حكم الاستبداد الصدّامي. بيد أن النظام البديل وجد نفسه، ومعه البلد، أمام تنازُع أهليّ، سنيّ-شيعيّ، ضارٍ مرفق بالاتهامات في ما خصّ الانتماء الى قوى خارجيّة، وبتبلور حالة كرديّة خاصّة في شمال البلد الشرقيّ.

ومعروفٌ ان العلاقات التاريخيّة التي ربطت العراق بجيرانه في الشرق والجنوب والغرب كانت دوماً عرضةً للتوتّر الذي وصل الى حدّ الحرب المديدة مع إيران، ثم الى اجتياح الكويت وغزوها، هي التي عاشت طويلاً أسيرة الخوف من الضمّ العراقي. أما في ما خصّ العلاقات العراقيّة-السوريّة فنادرةٌ وقصيرة هي المراحل التي شهدت شيئاً من التطبيع الصحيّ غير المحفوف بالتهديدات المتبادلة والمخاطر.

وقصارى القول إن خطّ الدم الأفغاني-العراقي-الصومالي الذي يتهدّد المنطقة بأكملها، على ما نرى اليوم في فلسطين مثلاً، قد يصير المحدّد الأكبر لوضع هذه المنطقة الشاسعة ومآلاتها المستقبليّة. والأمر معنيّةٌ به شعوب تُعدّ بعشرات الملايين، وثروات لا يتصل بها اقتصادها فحسب بل اقتصاد العالم بأسره، فضلاً عن الأمن والارهاب في مداهما الكونيّ.

وليس من الصعب الخروج بمضبطة اتهام للسياسات الغربيّة، لا سيّما  تلك الأميركية الحربيّة في العقد الأخير. بيد أن الاتهام الذي يعفي النفس من مسؤوليّاتها شيء، والخروج بخلاصات مفيدة شيء آخر. وهو ما يعني ضرورة اعتماد التوزيع العادل للمسؤوليّات عمّا يجري، بحيث نحدّد حصّة واشنطن والغرب عموماً، كما نحدّد حصّتنا المترتّبة على فشلنا في بناء دول قابلة للحياة تمتنع عن تصدير مشاكلها الى خارجها، وفشلنا في تطوير مصادر حديثة للشرعيّة تفصل السياسيّ عن المستويات الدينيّة والإثنيّة والتجمّعيّة على أنواعها.

فالخطّ المذكور قوي وجارف، وينبغي، في التعامل معه، أن نتجنّب طريقتين في المقاربة: أولاهما الخفّة والشطارة السجاليّتان اللتان لا تساعدان إطلاقاً على تجنّب الطوفان، إن لم نقل إنهما تستعجلانه، لا فارق في ذلك أنجحنا أم لم ننجح في البرهنة على أن "المؤامرة" الأميركية-الصهيونية هي السبب. والثانية، هي النزعة الانتحاريّة الجبانة التي تؤثر الهرب من مواجهة الأسئلة المعقّدة والصعبة، ومن مواجهة مسؤوليّتها في التسبّب بها وفي معالجتها، باختيار... الموت!

كاتب لبناني