ديكو والكيخيا وفعنونو.. وهرموش

تعيدني حادثة خطف الضابط السوري المنشق المقدم حسين هرموش من ملجئه في تركيا إلى وقائع مثيرة في حالات خطف أخرى انشغل بها العالم في سنوات لم يكن فيها جمر الصراع متقدا في شوارع العواصم، وكانت الدول تصفي حساباتها بعمليات أمنية سرية تبدأ وتنتهي في عتمة الليل، وتنكشف تفاصيلها بعد شهور من تنفيذها.. وتظل مثيرة للمهتمين والمتابعين وحتى لهواة الأفلام والروايات البوليسية.اضافة اعلان
كانت التفاصيل ملفتة في عملية خطف القيادي في الحزب النازي الألماني ادولف ايخمان من قلب مدينة بوينس ايرس ونقله مخدرا الى تل ابيب عام 1960، لكن ما قاله ايخمان في المحكمة كان أكثر اهمية وإثارة، فقد احتفظ الرجل بموقفه وبقناعاته، ولم تدفعه الخشية من الإعدام الى الانقلاب على ذاته والتغني بحب اسرائيل. وما كان يمكن أن يسجل كعمل بطولي للموساد الاسرائيلي وللضابط رفائيل ايتان (تولى وزارة الحرب الاسرائيلية في السنوات اللاحقة) تحول الى فضيحة كشفت هشاشة الرهان الاسرائيلي على اقناع العالم بمسكنة الإرهاب وأنسنة الخبث.
عندما انتقل الخطف من خيال الروايات إلى واقع المهمات في الدول البوليسية أخذت عمليات الأجهزة الأمنية شكلا أكثر احترافا وإثارة وجاذبية، وحظيت باهتمام الاعلام الذي تجاهل المخطوفين وركز على براعة الخاطفين في أداء مهماتهم الجرمية. وهكذا رأينا كيف تم في أواخر السبعينيات خطف الوزير النيجيري السابق عمر ديكو من لندن وشحنه جوا إلى لاغوس في صندوق أثاث!
كنت في ذلك الوقت أعمل في صحيفة "العرب" اليومية التي كانت تصدر في لندن ويملكها ويرأس تحريرها الوزير الليبي السابق المعارض لنظام القذافي الحاج أحمد الصالحين الهوني يرحمه الله. وأذكر أن الحاج الهوني أسرّ لي بعد أسابيع من خطف ديكو بأنه تلقى اتصالا هاتفيا من أحمد قذاف الدم يطلب منه الذهاب الى طرابلس بإرادته لمقابلة "الأخ العقيد".. أو الوصول الى ليبيا في صندوق أثاث.
لم يذهب الحاج الهوني الى طرابلس، ولم يخطفوه، لكنه ظل خائفا من الخطف أو الاغتيال حتى توفاه الله.
في أزمنة لاحقة واصل النظام الليبي انجازاته الكبيرة، فخطف وزير خارجيته السابق منصور الكيخيا أثناء مشاركته بمؤتمر حقوقي في القاهرة في العام 92.
كيف أخرجوا الكيخيا من قاعة المؤتمر في الفندق، وكيف نجحوا في اقتياده الى حتفه؟ لا أحد يعرف بالضبط ما الذي جرى في ذلك اليوم المشؤوم.
ما كدنا ننسى قصة الكيخيا حتى انشغلنا بقصة فعنونو، ذلك الاسرائيلي الذي هرب بأسرار مفاعل ديمونة، وخطفه الموساد من قلب روما التي ذهب إليها من أجل لقاء مرتب مع امرأة ادعت أنها صحفية، وتبين أنها عميلة للمخابرات الاسرائيلية.
وقد أثار خطف فعنونو ضجة كبيرة في العالم، رغم أن الخطف ممارسة يومية لأجهزة الاحتلال وقوات المستعربين التي تخطف فلسطينيين كل يوم، ولا يسأل عنهم أحد.
على أهميتها تبدو قصص الخطف ضعيفة التأثير في مسارات السياسات التي تعتمدها الدول، وهي في الأغلب تعبر عن مواقف شخصية ثأرية، كعملية خطف الكيخيا وقبله الرائد عمر المحيشي الذي طارده النظام الليبي وضغط لإبعاده من مصر، ثم رتب صفقة تسلمه من المغرب. كما تعبر بعض هذه العمليات عن رغبة في الاستعراض الأمني وتوجيه رسائل قوة تؤكد أن "الأيدي طائلة"، وهذا ما قرأناه في عمليتي خطف ايخمان وفعنونو.
لكن قصة المقدم حسين هرموش تحمل رسالة أخرى. إنها رسالة نظام يصر على تزوير التاريخ، ليس بقتل الشاهد أو نفيه، بل بتأكيد وجوده "حيا يرزق". هرموش ليس في تركيا.. لا انشقاق في الجيش السوري إذن!