"غواية المعرفة": الحركات الإسلامية في دائرة البحث

يحذر إدوارد سعيد في نهاية كتابه الشهير "الاستشراق"، مما يسميه "غواية المعرفة"، والتي يرى أنها قد تعيد تشكيل أو إنتاج العديد من الصور الاستشراقية التي حكمت المعرفة الغربية عن "الشرق"، كما شكله هذا الغرب، وفقاً لسعيد.

اضافة اعلان

وفي موضع آخر من الكتاب، فإن سعيد يتحدث أن من أكثر الفنون، بالمفهوم العلمي، التي لم يدرسها "الاستشراق"، هو الأدب، رغم أن الأدب يدخل في صميم التفاصيل اليومية، ويعكس تفاعلات المجتمع الداخلية. وعلى الرغم من تزايد دراسات الأدب الشرقي في الغرب، فما تزال إلى حد كبير محصورة في الدراسات الأدبية. هذا الكلام ينطبق أيضاً على دراسة الحركات الإسلامية، التي ما تزال محكومة بشكل كبير، في الغرب، وهو أمر انتقل إلى الشرق أيضا، باقترابات تاريخية لا تناقش تفاصيل الظاهرة، ولذا فمن النادر أن تجد دراسة عن الظاهرة الإرهابية في الأدب، ولعل الواجب الإشارة إلى كتاب "مواجهة الإرهاب" لجابر عصفور، في هذا السياق. وهو الأمر الذي دفع إلى أن يشهد حقل الدراسات الإسلامية انتشارا فطريا في الباحثين، والمختصين، والخبراء وغيرهم، إما استسهالا، أو بإغراء الموضوع ذاته. "غواية المعرفة" هذه اتخذت مظاهر عدة في الغرب، ولعل أهمها فيما يثبت الظاهرة، اللغة العربية. ورغم أن الدراسات تشير إلى أن نسبة عالية من الأكاديميين، الأميركيين، تفوق الـ 85 %، وفقاً لدراسة أعدتها مجلة الـ Foreign Policy، قبل سنوات عدة، ترى أن الشرق الأوسط يعد المكان الأكثر أهمية للولايات المتحدة الأميركية استراتيجيا، ورغم ذلك فإن نسبة لا تزيد على 10 % لا تتحدث اللغة العربية.

وعلى ذلك تجد من الحضور في المؤتمرات، والسيمنارات، وجلسات ما يسمى بالعصف الذهني، حول الجماعات الإسلامية، وقد شهدت في الغرب العديد منها، من يستخدم اللغة العربية بين ثنايا حديثه مستخدما مصطلحات فقهية، أو جهادية، أو دينية عامة كالولاء والبراء، والتمكين، والحديث، والسنة...الخ، أو تجد ممن يكتب على سيرته الذاتية بأنه يتقن العربية، وهو لا يتقنها إنما يعرف بعض الكلمات الدارجة في الحقل الدراسي، وهو الدراسات الإسلامية.

وللموضوعية، فإن هؤلاء يذكرونني شخصيا، بمن أسميهم بـ "الرطّانين" باللغة الانجليزية منتصف التسعينيات في الأردن، ومع التحولات الاقتصادية-الاجتماعية التي كانت تشهدها البلاد آنذاك، فقد كانوا "يرطنون" باللغة الانجليزية ببضع كلمات في إطار أحاديثهم القادمة "من بعيد من هناك"، وكانت اللغة الانجليزية متطلبا لدخول سوق العمل، حتى لو كانت الوظيفة "مدققا لغويا" للغة العربية! لكن "شباب تلك المرحلة" كانوا قد وضعوا "متطلبات السوق"، لمجرد أنهم أدرجوا أفكار وبرامج لم تكن قابلة للتطبيق في الأردن، ببساطة لأنهم هم غير مؤهلين. وعودة إلى الغرب، وموضوعة الحركات الإسلامية، واستخدام "الرطانة العربية"، وبعيداً عن الفهم الاجتماعي لها، فإن لها جانبا أكاديميا سلبيا في فهم الظاهرة، فاستخدام مثل هذه الألفاظ والمصطلحات في سياق غربي، يمنحها بعداً "دراميا" و"غامضا" والأهم "استشراقيا" حول هذا العالم الغريب، وبالتالي يتم رسم صورة ملحمية لهؤلاء الإسلاميين، والجهاديون منهم تحديدا، ولك أن تتخيل أحدهم يتحدث عن الزرقاء، قبل مقتل أبو مصعب الزرقاوي في العراق، وحين كانت أخباره تملأ الصحف، فيخيّل إليّ، أنا ابن الزرقاء، وأزعم أنني أعرفها جيداً، أنها مدينة أسطورية؟!

مهما يكن من أمر، من المهم الإشارة أيضاً أن في الغرب، وكما أشار إدوارد سعيد في كتابه آنذاك أيضا، باحثين متميزين في الحركات الإسلامية، ويتقنون العربية، ولا يتبجحون، وهم مميزون في فهم الظاهرة، ولا أقصد بذلك بأنهم إيديولوجيا مؤيدون لما درج عليه بالإشارة إلى القضايا القومية والدينية الكبرى، بل أقصد باحثين بالمفهوم الموضوعي وتوخي الدقة، وهم أفضل بكثير، أيضا، من "كتّاب" عرب مدّعين، ويشتغلون في الظاهرة الإسلامية بمنطق "استخباراتي" وبمنطق "كتبة التقارير". إذا انتبهنا، في المقابل، إلى "فهمنا" نحن للغرب، بمراجعة سريعة لما يكتب من "أوهام" و"تخييلات" عن هذا العالم الغريب، فإنّ المرء يدرك أن العالم، ومنذ كتاب إدوارد سعيد في السبعينيات، لم يحقق إلا نزرا يسيرا من الفهم المتبادل.

[email protected]