تاريخنا.. بين الرواية الملفقة والوثيقة الضائعة

منذ قرون وإلى اليوم، ونحن نتلعثم في إثبات بعض الحقائق داخل موروثنا المتشابك، والمصاب بعدم التوثيق والدقة، كتواريخ الحروب والشخصيات والمواقع، ذاك اننا نفتقد للملمس المادي الذي يؤكدها أو ينفيها، أو يضعها امامنا واضحة دون لبس. اضافة اعلان
فمثلا الشعر العربي  "الجاهلي " كما يصفه سلفيو النقد والنقض، وصلنا  المدون منه، بعد انبثاق الإسلام، بأكثر من مائتي عام، وكل ما التقطناه منه عبر تصانيف المؤلفين، صيغ بعربية قيل إنها فصيحة، وهي في الحقيقة، عربية من نقله الينا، امثال حماد الراوية والاصمعي والزوزني وغيرهم من الرواة، الذين تصف الكتب التاريخية غير الموثقة ايضا، أن بعضا منهم غير ثقاة، وانهم نقلوا بعربية لم يكن العرب كلهم يتحدثون بها، لتفاوت بيئاتهم ولغاتهم ولهجاتهم، كما نحن عليه اليوم.
في هذا النطاق، لم أسمع ان متحفا عربيا مثلا، لديه أثر من المعلقات، التي قيل إنها كانت تتدلى على استار الكعبة، ولم يرد في أي دورية تاريخية، أن ثمة من وجد نصوص شعر مكتوبة على الرقائق واوراق النبات والعظام والخشب والجلود، تورد لنا ما قاله زهير بن ابي سلمى مثلا.
وحتى في الأحفوريات العربية الآثارية، لم يعثر على أي نصوص تشير مثلا الى أن هذه القصيدة او تلك، قائلها امرؤ القيس او النابغة الذبياني، أو عنترة، أو الاعشى او طرفة.. إلخ.
وفي مثل آخر، لم يرد حول حرب صفين أو الجمل، سوى ما اورده الكتبة المؤرخون في عهود سلطات مستبدة، كما وسمتها الكتب، واختلفت على حجم استبدادها، ونوعه.
ومن المثير ان حربين كهاتين، قسمتا ظهر الأمة الاسلامية الى طائفتين كبيرتين، ما تزالان تفرخان طوائف أصغر وأكثر تجهما في جلوسها على مقعد الافتراق، إذ لا وثيقة مكتوبة او مادية ملموسة، قادمة من تلك الفترة تحدثنا عما جرى في  الحربين.
تلك أمثلة بسيطة، التعرض لها يجلب الكثير من الاسئلة التي نحن بحاجة ماسة اليوم، للحصول على اجوبة لها، تفيدنا في تنقية تصورنا ومعتقداتنا وتنظيفها من الركون الى ما قالته كتب، تظهر نوايا كتابها من السطر الاول لها، في انحيازها وعدم موضوعيتها.
أننا بحاجة فعلا، لوضع تقديس التراث المكتوب في التاريخ والادب جانبا، والبحث فيما يمكن الوثوق به من عناصر مادية، تقدم لنا تاريخنا بما كان عليه، وتسرده دون تزويق او تلفيق أو تأويل، للتيقن من مدى دقة ما وصلنا لاكتشاف بعض من تاريخنا.
ولنعترف أننا لم نهتم بالتوثيق، واحترفنا النسيان والضياع ومن ثم الركون لمن يصوغ تاريخنا وفق هواه، وهذا يتجلى أيضا في التاريخ الحديث، فثمة الكثير من الحوادث والوثائق العربية التي ضاعت وفقدت، ولم يجر الاحتفاظ بها، لتكون فصلا في توضيح الماضي وقراءته، دون جرنا الى نزاعات، تتبدى اليوم لنا في تشرذمنا وانقسامنا وعداءاتنا.