ضربَ زيدٌ عمراً

منذ أن تخرجتُ من الجامعة نهاية الثمانينيات، وحين كانت الدنيا غير الدنيا، وحين كانت قيمة الأستاذ وهيبته جزءا من العملية التعليمية، ومكانةُ البيت والمدرسة محفوظة، وعندما كانت شوارعنا تخلو من الحفر والمطبات، ونفايات السيارات المُسرعة، ومن أصحاب السوء وأفكار السواد والضحالة.. بل حين كانت أشكالنا تختلف وهيئتنا أكثر تهذيباً، الأب في مكانته والمثل والقدوة جزء من شخصيتنا، والمرأة تطالب بمزيد من الحقوق على استحياء، لكنها موجودة بقوة، وصوتها لم يكن أيامها (عورة) ومظهرها محترم، والغناء فن لا مسخرة، والتلفزيون الأردني في (العلالي) ومسلسل "راس غليص" يغلق شوارع الخليج، وبلدنا يؤسس دولاً في آسيا ويقيم دنيا أخرى في دول الخليج وشمال أفريقيا، حين كان الإنسان أغلى ما نملك، والجهل والحرمان والشذوذ والتطرف عناوين نسمع عنها في الدول المتخلفة.اضافة اعلان
منذ ذلك الوقت وأنا أسمع أن لجنة ما، تحمل اسم "لجنة تطوير مناهج التربية والتعليم" منعقدة وتعمل على تطوير المناهج، لم تتغير المناهج وبقيت اللجنة، سقطنا في شرك المناهج المفخخة واللجنة باقية، استفحل الجهل والتطرف والعنف والأمية لدى مئات الآلاف من طلابنا، واللجنة باقية.
منذ ذلك الوقت ولاعتبارات سياسية أدخلنا مفاهيم جديدة للمناهج تواكب مقتضيات المرحلة، لكننا اصطدمنا بحقيقة أن اللجنة نفسها ولجان أخرى عديدة تشكلت لم تُقدم إلا المزيد من الإخفاق والتخلف في مناهج التعليم، ما أسفر على مدى ثلاثين عاماً الآن عن صورة لا تحتاج إلى الشرح والتوصيف، إلا بالإشارة الى ما نعانيه الآن من أزمة.في مناهج التربية الوطنية للصفوف الابتدائية التي اكتشف وكشف وزير التربية مؤخراً عن حجم الأمية المستشرية بينها، تغلب الضبابية والأفكار المرتبكة، والمعلومات والتعبيرات العائمة، والمُعومة والقصص المُشوهة، حين تسمى مادة التربية الوطنية والاجتماعية في الصف الخامس، تغلب صور المعالم السياحية وأزهار الشيح والزيزفون، وحتى تصبح التربية المدنية بعدها تصبح صور الشخوص والمعالم التاريخية وحكايات الفخر وقصائد المدح والعز.. هي السبيل.
على امتداد صفحات الكتب التي وُضعت كأساس لنواة القناعات وبناء الأفكار لدى الصغار، تفتقد المناهج لمفاهيم المواطنة وقيم العدالة والتسامح والحوار، واحترام وقبول الرأي الآخر، وتغيب تماماً قيمُ حقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية وثقافة الاختلاف والمشاركة في اتخاذ القرار و(اللجنة قائمة).ما تزال المناهج تُكرس واقعاً مترهلاً على كل صعد العلاقات السياسية والاجتماعية، وتعجز عن الاقتراب عن حقيقة العلاقة بين المواطن وبلده، على أسس الحقوق والواجبات.
منذ أن ضَربَ زيدٌ عمراً، في أول الزمان وحين اعتبرت الجملة دستوراً وأول عهد القراءة والكتابة في مناهج اللغة العربية، ما يزال زيدٌ يضربُ عمراً، ومظاهر العنف التي تتقافز بين سطور مناهج التاريخ والجغرافيا والدين والتربية الوطنية والاجتماعية، تؤرجح أجيالاً كاملة تربت على هذا العنف، فالتحقت بالجامعة بذات التربية وخرجت للشارع وسوق العمل بها نفسها..
حتى اللحظة التي نعيشها الآن، وحين نتابع عشرينياً يُروج لـ"داعش" ويُعبر عن ولائه لها، وطالبا جامعيا آخر يسعى للانضمام للنصرة، وآخر يهربُ ليُقتل في أماكن العنف والاقتتال، وحين نرى أن طلبة مثقفين في كلية الشريعة يُصرون على فصل بوابات الدخول لقاعات المحاضرات بين الذكور والإناث، ومنع الطالبات من السؤال بداعي عورة صوتهن، وحين نرى أن مطعماً يمنع دخول مواطنة بداعي الحجاب، وحيث تتواصل مشاهد العنف المدرسي والجامعي ومشاهد التحرش أمام المدارس والتسرب الطلابي، ومع بقاء ظاهرة "هذا اللي اجاك" و"إنت شو بفهمك" ورفض التحاور وإلغاء الآخر تماماً، وتمدد ظاهرة توزيع الاتهامات الجاهزة بالزندقة والكفر والعصيان ومن الطرف الآخر.. بالتطرف والتخلف والانفلات والعنف.ستبقى لجان تطوير المناهج القائمة الآن والأخرى التي أمضت سنين البحث والاجتماعات والمكافآت والتنظير والفلسفة (الفارغة)، عاجزة عن تقديم جيل يواجه الدنيا المتغيرة بمناعة أقوى، وبثقافة تستوعب الآخر، نحن في وقت إما أن نلحق بهم أو لا.
(وأكيد) اللجنة ما تزال قائمة.