النهج الإيراني في المنطقة.. بين التطلعات الإقليمية والمخاطر الأمنية

04054
د. ليث عبدالله القهيوي
في خضم الصراع المتواصل بين إيران والغرب بشأن ملفات عدة كالبرنامج النووي والنفوذ الإقليمي، ما تزال السياسة الخارجية الإيرانية تجاه منطقة الشرق الأوسط محفوفة بالكثير من التحديات والمخاطر، فالنهج الذي تنتهجه طهران للحفاظ على مصالحها ومواجهة خصومها، خصوصًا إسرائيل، يبدو حافلاً بالتناقضات والمغامرات التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة.  لا شك أن إيران، كقوة إقليمية كبرى ذات ثقل ديموغرافي وجغرافي واقتصادي، تطمح إلى لعب دور محوري في المنطقة وترسيخ نفوذها فيها، وهي ترى أن الحفاظ على هذا النفوذ من شأنه أن يعزز أمنها القومي ويحميها من أي تهديدات خارجية، خصوصًا مع وجود حلفاء لها كحزب الله وحركات مسلحة أخرى في سورية والعراق وفلسطين.اضافة اعلان
لكن الطريقة التي تمارس بها إيران هذا النفوذ، وسياساتها الخارجية التدخلية والمزعزعة للاستقرار، تبدو محفوفة بالعديد من المخاطر التي لا تخدم مصالحها على المدى البعيد، فدعمها المفرط للحلفاء وحشد القوى الموازية في المنطقة، إلى جانب سياسة «محور الممانعة» المتشددة، أدى إلى زعزعة استقرار دول المنطقة عوضًا عن تعزيز الأمن الإقليمي، علاوة على ذلك، فإن الأساليب العدوانية والتهديدات المتكررة الموجهة إلى إسرائيل وحلفائها الغربيين، بدلاً من التفاوض والدبلوماسية، هي التي دفعت حلفا معاكسًا لإيران إلى الظهور في المنطقة، حيث اضطرت دول عربية خليجية للتحالف مع إسرائيل والمضي في تطبيع العلاقات معها خوفًا من التهديد الإيراني.
هذه الانقسامات الإقليمية العميقة التي أججتها السياسات الإيرانية المتشددة لم تضر بإسرائيل فحسب، بل وأدت أيضًا إلى انقسام صفوف الدول العربية نفسها إلى محاور وكتل متصارعة، كما شكلت أرضية خصبة لتنظيمات متطرفة كداعش للبروز واكتساب زخم إضافي، في الواقع، إن الاعتقاد الإيراني بأن النفوذ الإقليمي لا يمكن أن يأتي إلا عبر زعزعة الاستقرار وبث الفوضى والصراعات في المنطقة هو مغالطة كبيرة، فالتجربة التاريخية تظهر أن القوة الناعمة والدبلوماسية الحكيمة هي الأكثر فاعلية في ترسيخ النفوذ والهيبة الإقليمية، وليس القوة الصلبة والعسكرية فقط.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التوترات والصراعات المستمرة في المنطقة لم تغب عن إضعاف إيران نفسها بشكل متزايد، حيث أنهكتها الحروب بالوكالة في سورية واليمن وغيرها من الجبهات، وعطلت نموها الاقتصادي، ودفعت الغرب إلى فرض مزيد من العقوبات عليها، كما أن تصاعد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يضع إيران في مواجهة محتملة مع قوى عظمى كالولايات المتحدة التي لا تتردد في الدفاع عن حليفتها إسرائيل. وهو ما قد يثقل كاهل إيران بشكل إضافي ويهدد أمنها القومي ذاته.
  لكل هذه الأسباب، تبدو إيران في حاجة ماسة لإعادة تقييم نهجها الحالي في الشرق الأوسط، فمن الواضح أن سياساتها العدوانية وزعزعة استقرار المنطقة آلت إلى نتائج عكسية بعيدة عما كانت تسعى إليه في الأصل من ترسيخ نفوذها الإقليمي، ولا بد من التركيز بدلاً من ذلك على الحلول الدبلوماسية والتفاهمات الإقليمية لحل الأزمات، مع التخلي عن سياسة إطالة أمد الصراعات عبر الحروب بالوكالة، كما يتعين على إيران أن تعيد النظر في علاقتها مع حلفائها من الجماعات المسلحة، والحد من تأثيرهم المزعزع للاستقرار في البلدان المضيفة لهم.
وفي الوقت ذاته، على المجتمع الدولي أن يشجع إيران على اعتماد هذا النهج الإصلاحي، وأن يقدم لها الحوافز اللازمة للاندماج بشكل إيجابي في النظام الإقليمي والعالمي، ذلك أن عزل إيران وتهميشها قد لا يكون حلاً مجديًا، بل قد يدفعها نحو مزيد من التشدد والمغامرات الخطيرة.
في نهاية المطاف، مصلحة جميع أطراف المنطقة تكمن في العمل على تحقيق الاستقرار والازدهار عبر الحوار البناء وإرساء قواعد جديدة للتعايش السلمي. فلا أحد سينجو من عواقب أي حرب إقليمية جديدة، حتى لو كانت محدودة في البداية، والمنطقة بأسرها عانت بما فيه الكفاية من ويلات الصراعات والحروب على مدى عقود طويلة.
بعد تناول النهج الإيراني في المنطقة وتحليل جوانبه المختلفة، لا بد من التطرق إلى الدور الأردني في هذا الصدد، باعتباره طرفًا فاعلاً ومتأثرًا بشكل مباشر بهذه التوترات الإقليمية، تحاول المملكة الأردنية الهاشمية، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، انتهاج سياسة حيادية إيجابية تجاه الأزمات الإقليمية، تهدف إلى الحفاظ على أمنها واستقرارها، فالأردن دولة لا تملك ترف المواجهة أو الانجرار إلى صراعات إقليمية قد تهدد كيانها ووجودها.
لذلك، تركز عمّان على الدبلوماسية والحوار لإدارة الأزمات، مع التأكيد على ضرورة عدم المساس بأمنها القومي، وقد حذرت القيادة الأردنية مرارًا من أن المجال الجوي والبري والبحري الأردني محرم على أي نشاطات عسكرية دون موافقتها في إشارة إلى الأطراف المتصارعة في المنطقة.  في الوقت نفسه، تحرص المملكة على الحفاظ على علاقات متوازنة بين جميع الأطراف الإقليمية الفاعلة، بما في ذلك إيران وإسرائيل وتركيا والدول الخليجية، حيث يدرك الأردن أهمية هذا التوازن الإقليمي لتجنب الانجرار إلى محاور متصارعة قد يؤدي ذلك إلى عزلته. 
مع ذلك، فإن سياسة الأردن هذه تواجه تحديات كبيرة في ضوء حالة عدم الاستقرار والتوتر المتصاعد في المنطقة، إذ يخشى الأردن من انزلاق المنطقة إلى صراع طائفي واسع النطاق بين محاور سنية وشيعية، الأمر الذي سيضعه في موقف حرج للغاية، كما أن الآثار الاقتصادية لأي حرب إقليمية محتملة ستكون مدمرة للأردن، حيث ستتضرر حركة التجارة العابرة لأراضيه، وستنقطع مصادر الاستثمار والسياحة وتحويلات المغتربين، وهي أمور لا يمكن للاقتصاد الأردني تحملها.
علاوة على ذلك، سيضطر الأردن إلى تحمل عبء موجات لجوء جديدة من الدول المجاورة في حال نشبت صراعات مسلحة، الأمر الذي سيثقل كاهل البنية التحتية والخدمات الاجتماعية في المملكة. لهذه الأسباب، لا تملك القيادة الأردنية سوى السعي الجاد لاحتواء التوترات والدفع نحو تسويات سلمية، تحت مظلة المجتمع الدولي ومجلس الأمن، كما تحرص على تأكيد دعمها للقضية الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، باعتبار ذلك مصلحة أردنية حيوية لتجنب انفجار الوضع في المنطقة.
في نهاية المطاف، لا يملك الأردن خيارًا آخر سوى مواصلة مساعيه الدبلوماسية للحفاظ على توازن هش في علاقاته الإقليمية، وتجنب اضطراره للانحياز إلى أي محور على حساب الآخر، فكلفة أي صراع مسلح لن يستطيع الأردن احتمالها، وستكون كارثية بالنسبة لأمنه واستقراره ومستقبل شعبه؛ لذلك يظل العمل على إرساء الاستقرار الإقليمي هو الهدف الاستراتيجي الأسمى للسياسة الخارجية الأردنية.