تظاهرات كولومبيا وخلخلة النظام الدولي

د. محمود أبو فروة الرجبي
د. محمود أبو فروة الرجبي
ما يحصل في جامعة كولومبيا الأميركية، وغيرها من الجامعات العالمية العريقة، مقلق للغرب، ويعطي مؤشرات كبيرة يجب البناء عليها، ويبدو أن تداعيات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، والمذابح اليومية ضد أبناء الشعب الفلسطيني لن تكون نتائجها مثل ما حصل في المذابح السابقة الممتدة على طول تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ابتداء من مذبحة حيفا في 6 آذار 1937 وربما ما قبلها وللآن، بل ستكون له عواقب قد لا نتصورها في الوقت الحالي. اضافة اعلان
تمثل دولة الاحتلال حالة خاصة في العالم كله، فهي فوق القانون الدولي، ويمكن لها أن تفعل ما تريد، ولا تعد غالبية الدول الغربية عدوها بشرا، وعندما نقول ذلك لا نبالغ، ويمكن – على سبيل المثال - مراجعة ردود فعل المسؤولين الأميركيين، والغربيين بالعموم، ومطالباتهم بعودة الإسرائيليين الرهائن إلى بيوتهم، في الـمقابل لم يتم ذكر حتى من استشهد من أهل غزة، وفي حالات وجهت لبعض المسؤولين أسئلة مباشرة حول من قتل من الفلسطينيين في غزة – وجلهم من النساء والأطفال- كانوا يتهربون من الإجابة، في تحد صارخ للمبادئ التي تعلن هذه الدول في مجال حقوق الإنسان، والحريات. 
لا نستطيع أن نذكر أي دولة أخذت دلالا، ومساعدة من الآخرين، مثل دولة الاحتلال، وإذا أشرنا إلى مسارعة الدول الغربية لدعمها بالذخيرة، والقنابل، والطائرات، والأسلحة الـمختلفة، دون مطالبتها الحقيقية بوقف قتل النساء والأطفال، فنعرف تماما طبيعة هذه العلاقة القائمة على أسس غير أخلاقية، ستدفع أوروبا وأميركا ثمنها لعقود وربما قرون طويلة عندما تتغير المعادلات على الأرض، أو بعدما يضعف اللوبي الصهيوني، وتعود هذه الدول إلى الأخلاقيات التي تدعو لها في العلن، وتخالفها في السر والعلانية. 
نعود لـموضوع الانتفاضات الطلابية وعلى رأسها ما يحصل في جامعة كولومبيا، فيمكن الإشارة إلى ما يأتي: 
أولا: بدأت نتائج تعدد السرديات الموجهة للغرب والعالم، وخروجها من سيطرة السردية الصهيونية الوحيدة في الغرب، والمدعومة حكوميا، وشعبيا، ومن خلال سيطرة رأس الـمال الصهيوني، وسوق الإعلانات عليها تظهر علنا، وبرأيي الشخصي فإن ما يحصل في بعض الجامعات الغربية الآن لن يتوقف عند هذا الحد، بل ستصل أمواجه إلى قوى أخرى، ونقابات، بل وربما الشارع الأوروبي والأميركي نفسه، وإذا ما أمعنا النظر في بعض الفيديوهات التي تصل إلينا من خلال منصات التواصل الاجتماعي، فهناك تململ – وإن كان بسيطا – من بعض الأمريكيين الذين يتساءلون بحسرة عن سر الدعم غير المحدود لدولة الاحتلال، وتحمل العبء السياسي والأخلاقي له، على حساب دافع الضرائب الأميركي.
وهناك تساؤلات ربما تظهر على السطح بهذا الشكل لأول مرة، مثل: ماذا لو أنفقت الحكومة الأميركية جزءًا من إنفاقها العسكري، وما تنفقه على دولة الاحتلال لقاء الفقر في أميركا بشكل كبير خاصة إذا عرفنا أن ما يقرب من أربعين مليون أميركي يعيشون في فقر، وجزء لا بأس به منهم ينامون في سياراتهم وفي الشوارع، ولا تستقيم حجة أن إسرائيل تشكل قاعدة عسكرية تحمي مصالح أميركا في الشرق الأوسط، وتمنع بأي شكل البعبع الإسلامي من الظهور بقوة مما قد يحيي السيطرة الإسلامية على العالم، وإعادة زمن الفتوحات الإسلامية الذي يشكل هاجسا قويا لدى الغرب الذي اعتاد تاريخيا أن يستعمر الجنوب باستثناء ما حصل أثناء الفتوحات الإسلامية حيث انتصر الجنوب، وسيطر على العالم.  
ثانيا: الـمشاركون في المسيرات، والمظاهرات المؤيدة لفلسطين سواء في الجامعات أو الشوارع من أجيال مختلفة، ورغم أن الغالبية العظمى منهم من الشباب، وجزء لا بأس به يأتي من جامعات عريقة تضخ للمجتمعات الغربية قادتها، ويعطي ما يحصل الآن مؤشرًا عن نوعية القيادات الـمستقبلية هناك، ومعاداتها لدولة الاحتلال، وهذا خط أحمر لا يتم التسامح معه بأي شكل في الغرب، لأن إسرائيل تشكل بالنسبة لهم البعد العسكري الاستعماري، والجزء المادي – من غير القوى الناعمة- التي يسيطرون بها على العالم. 
ثالثًا: لم يعد سلاح معاداة السامية الذي يرمى به كل شخص ينتقد إسرائيل، أو ينادي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني مخيفًا لكثير من الناس في الغرب، والتعريف الأعوج له الذي يشمل أي انتقاد لإسرائيل ولو كان سياسيًا أجوف، ولا ينطلي على أحد، وظهرت في الفترة الأخيرة مقولة إن المظاهرات ضد إسرائيل تخيف اليهود في الجامعات الأمريكية، وتجعلهم لا يستطيعون مواصلة دراستهم، وهذه حيلة تضليلية لا تصمد أمام الواقع، فما علاقة المظاهرات بالخوف عند أي فئة، وفي العادة تحصل مظاهرات من أطراف أخرى، فلماذا لا تتم مراعاة الـمسلمين فيها مثلا؟
رابعا: رغم التجربة الديمقراطية القديمة في الغرب، فمن الواضح أن هناك اختلافا كبيرا بين الرأي العام الذي بدأ يميل إلى إدانة حرب الإبادة على غزة، في مقابل السياسيين الذين لا يريدون الاستماع لأحد، ولو على حساب الخروج على مبادئ الديمقراطية التي ينادون بها دائمًا. 
خامسا: لن تكون تصريحات بعض أساتذة الجامعات الأميركية لبعض وسائل الإعلام، وطلبهم عدم ذكر أسمائهم خوفًا على فقدانهم وظائفهم أو سجنهم مفاجأة لمن يعرف حقيقة الديمقراطية الغربية القائمة على قاعدة « لا حرية إذا تضاربت مع مصلحة إسرائيل»، والغريب في الأمر أن ما يحصل يشبه تماما ما يجري في دول العالم الديكتاتورية حيث يخاف أي شخص على رزقه، وأمنه الشخصي إذا عبر عن نفسه، فهل سنجد مؤسسات أميركية تقوم بعمل تمويل لمشاريع من أجل نشر حرية التعبير في أميركا نفسها؟ أم أنها ستواصل محاولة نشر ما تدعيه من ديمقراطية في العالم الآخر، في سياق بات سمجا، ومكشوفا، وغير منتج.
وفي السياق نفسه وحسب ما يرشح من الطلبة المؤيدين لفلسطين أنفسهم أنهم يتعرضون لمضايقات وتهديدات بإرسال أسمائهم للشركات الكبرى لتضعهم على قوائم سوداء تمنع تعيينهم في الـمستقبل في أي وظيفة مرموقة، ولن أعلق على هذه النقطة بالتحديد، فمن كان يحلم أن تحصل مثل هذه الخروقات لحقوق الإنسان ولحريته في بلد الحريات العالمية أميركا؟ أو بريطانيا أو فرنسا أو غيرها؟
من الواضح أن جزءا من الخوف العالمي من تظاهرات الجامعة الأميركية وعلى رأسها كولومبيا هو تأثيرها على نتائج الانتخابات الأميركية، وعلى مستقبل الرأسمالية العالمية وأسلوبها في حكم العالم الغربي والشرقي على حد سواء، وهذا قد يفتح ملفات توزيع الثروة غير العادل في الدول الغربية نفسها، وفي العالم، إضافة إلى قيام الشرعية الدولية على مبدأ المصالح، وليس العدالة العالمية، وما له علاقة بالدولار وسيطرته العالمية والصراع الروسي الصيني من جهة، والغربي من جهة أخرى. 
والحجج التي تقال في سياق شيطنة هذه المظاهرات لم تعد تنطلي سوى على البسطاء، وقليلي الوعي، ومن لديهم مصالح مباشرة مع دولة الاحتلال، ولأول مرة نرى الغرب يحاول تبرير الأعمال غير الديمقراطية، واقتحام الجامعات، واعتقال الطلبة والأساتذة بطرق لا تختلف عما يحصل في دول العالم الثالث البائسة.  
في النهاية فإن العالم مقبل على تغيرات كبيرة، قد تعصف بالنظام الدولي القائم على الكيل بألف مكيال، وعلى توزيع غير عادل للثروة، وكما قلت في مقال سابق لا بد من البحث عن نظام دولي جديد قائم على المساواة التامة بين البشر، والعدالة الحقيقية، وأن تصبح هذه المفاهيم واقعا، لا يتغير بمجرد تعارضه مع مصالح إسرائيل أو أي دولة غربية. 
تظاهرات كولومبيا قد تجعل العالم يتغير، يختلف عما قبلها، والـمستقبل كفيل بتأكيد ذلك.