الأنباط وقبائل الخليج

تصريحات حاكم الشارقة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي قبل ثلاثة أسابيع عن أن أصول سكان الإمارات تعود للعرب الأنباط ودائرتهم التاريخية الممتدة من جنوب الأردن إلى حوران، لاقت ردود فعل متناقضة وسط اهتمام إعلامي خليجي وعربي واضح، وعلى المستوى الأردني كان التناقض واضحا بين الاحتفاء الشعبي والترحيب العاطفي من جهة مقابل الصمت العلمي من جهة أخرى؛ فالاستغراب مصدره أن الاطروحة الجديدة تهز بقوة قناعات تاريخية تقليدية.اضافة اعلان
 تدفعني خبرتي في دراسات وبحوث الأردن القديم وتحديدا حضارة الأنباط من خلال العمل التطوعي مع هيئة بيت الأنباط، إلى دعوة المجتمع العلمي الأردني أن لا يفوت هذه الفرصة لإطلاق مناقشة علمية جادة حول مكانة ودور الجغرافيا التاريخية للأردن القديم في سلسلة من التحولات التاريخية المفصلية، وما أطروحة حاكم الشارقة إلا واحدة منها. وقبل إصدار أي حكم علينا مراجعة سلسلة من الدراسات الجديدة الغربية والعربية التي  قدمت مجموعة من الأطروحات التي سوف تقلب قناعات تقليدية في قراءة تاريخ المشرق العربي القديم رأسا على عقب.
مصدر التناقض الذي يصدمنا للوهلة الأولى في أطروحة الدكتور القاسمي أنها تضعنا في حيرة تاريخية في التحقيب الزمني الذي لا يتفق مع ما تعارفت عليه الدراسات التاريخية والآثارية حول ظهور العرب الأنباط في جنوب الأردن وتدشين دولتهم وازدهار حضارتهم، وهي الفترة الممتدة من القرن الخامس قبل الميلاد إلى مطلع القرن الثاني الميلادي، وهو ما لا يتفق مع ما يطرحه القاسمي من أن قبائل الخليج من الأنباط الذين هاجروا من جنوب الأردن قبل أربعة آلاف عام، أي في حدود 2000 قبل الميلاد، وبمعنى آخر قبل ظهور الأنباط الذين نعرفهم على مسرح التاريخ.
هذا الأمر يعيدنا لقراءات جديدة تعيد ترتيب تاريخ المشرق العربي القديم وتهزه بقوة، وتطرح أسئلة جريئة حول فرضيات تقليدية اعتدنا عليها منذ قرون: هل فعلا أن بلاد اليمن والجزيرة هما الموطن الأول للعرب؟ وهل الأطروحة التقليدية التي تقول بهجرة القبائل العربية من الجنوب للشمال ما تزال صالحة للنظر العلمي؟ وهل قصة خراب سد مأرب والهجرة الشهيرة قابلة للتسويق العلمي؟
 الأطروحات الجديدة تقول إن عشرات الأدلة العلمية تثبت أن الهجرات القديمة جاءت من الشمال نحو الجنوب والشرق وليس من الجنوب الى الشمال، وأن الممر التاريخي الممتد من جنوب الأردن مرورا بجنوب فلسطين الى سيناء هو المرجل التاريخي الساخن الذي شهد لحظات فصل ووصل مصيرية في تاريخ المنطقة، ومنها ميلاد الجماعات العربية المبكرة ثم في مرحلة لاحقة التأسيس المبكر للغة والكتابة  العربية. وهنا تشير الأدلة الى أن البتراء قد حافظت على مكانتها في هذا الممر التاريخي العظيم، حيث ظهرت الجماعات العربية الأولى، أجداد الأنباط الذين نعرفهم وهم بناة أدوم الكبرى الأولى في حدود الألف الثانية قبل الميلاد حيث أسسوا امبراطورية كبرى جمعت قوة استطاعت أن تهزم المصريين القدماء، وهم ما سمتهم الكتابات المصرية القديمة بالهكسوس، هذه الإشارات واضحة تماما في القراءات الجديدة لمخطوطات تل العمارنة.
وبالعودة الى الفترة التي تلت ظهور الهكسوس على المسرح التاريخي تبقى البتراء حاضرة كبيرة في التحولات المهمة وعلى صلة حميمة بالأسر الحاكمة في مصر. ويذهب سيد القمني في قراءته لهذه المرحلة الى فترة اختفاء الفرعون المصري (اخناتون) صاحب عقيدة التوحيد والذي ترتبط سيرته بالنبي موسى، ويرى أن تلك الغيبة كانت في بلاد ميتاني وعاصمتها البتراء. وفق هذا التصوّر الجديد لجغرافية العالم القديم تصبح دائرة الأردن التاريخية محطة لإسقاط جملة واسعة من المعطيات التاريخية والحضارية، منها بلاد بونت المقدسة وهي مركز الإمبراطورية المعروفة باسم ميتاني وهي بلاد آدوم الكبرى. لذا فهي أرض الآلهة المقدسة، حيث يقول عالم المصريات "ياروسلاف" إن المصريين القدماء اعتقدوا أن الأرض السوداء، أي مصر، قد أعطيت إلى حورس، بينما أعطيت الأرض الحمراء، أي البلاد الأجنبية، الى الإله "سيت" إله الحرب والموت، والأرض الحمراء او البلاد الأجنبية هي بلاد بونت الصخرية اي البتراء.
 هكذا، يمكن أن نجد الأساس العلمي الذي يمكن أن نناقش من خلاله إمكانية هجرة جماعات عربية مبكرة من الممر التاريخي أي دائرة الأردن التاريخية نحو الشرق باتجاه الخليج، وهو ما يحتاج إلى نقاش علمي جريء.

[email protected]