ردة عن الحريات الإعلامية

في الوقت الذي كانت فيه الحكومة تمضي في اتجاهات إصلاحية في ملف الإعلام، فبدأت بمراجعة ما أُنجز من الاستراتيجية الإعلامية، واندفعت بشكل عاجل لدعم إطلاق محطة الإعلام المستقلة، فأنجزت نظامها الخاص وعيّنت مجلس إدارتها، ودخلت في حوارات جادة لبحث آليات تأسيس مجلس شكاوى، في هذا الوقت بالذات يفاجأ الوسط الإعلامي بردة عن الحريات الإعلامية تمثلت في قرار ديوان تفسير القوانين الذي يعطي المدعين العامين صلاحية توقيف المالكين ورؤساء التحرير والإعلاميين العاملين في المواقع الإلكترونية الإخبارية، إضافة الى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي استناداً الى قانون الجرائم الإلكترونية الذي اعتُبر بقرار ديوان تفسير القوانين هو القانون الخاص الواجب التطبيق في جرائم القدح والذم.اضافة اعلان
أُصبت بحيرة منذ إعلان قرار ديوان تفسير القوانين، وتزاحمت الأسئلة، فلماذا تذهب الحكومة الآن في هذا الاتجاه على النقيض من التوجهات والمعاهدات الدولية، ما الذي دفع برئيس الحكومة لطلب هذا التفسير من الديوان دون مسوّغ أو مبرر؟
من يتابع القضايا المقامة على الإعلاميين يدرك ويعرف أن المدعين العامين كانوا يكيفون الدعوى سنداً لقانون المطبوعات، وهو لا يتضمن عقوبات سالبة للحرية، وأحيانا كانوا يلجؤون لقانون العقوبات، ولاحقاً لقانون مكافحة الإرهاب وكلاهما يمكًن الادعاء العام من اتخاذ قرار التوقيف.
وما أعنيه أن المدعين العامين لم يكونوا بحاجة لقرار ديوان التفسير، والقوانين الموجودة تسعفهم بهامش من الحركة في إسناد التهم، فما الضرورة الى هذه الخطوة التي تضر بسمعة الأردن وصورتها دولياً؟!
توقيف وحبس الصحفيين ليس أمراً جديداً في الأردن، فمنذ عودة الحياة البرلمانية العام 1989 وهناك حزمة من القوانين تشكل تضييقاً على الإعلاميين، بدءاً من قانون المطبوعات والنشر مروراً بقانون العقوبات، وأيضاً قانون وثائق وأسرار الدولة، وليس انتهاءً بقانون محكمة أمن الدولة، ومكافحة الإرهاب، والجرائم الإلكترونية، وكلها كانت تتضمن عقوبات سالبة للحرية، ومع ذلك لم تتغير حقيقة ثابتة أن بعض الإعلاميين كانوا مستعدين ان يتعرضوا للتوقيف، وحتى السجن من أجل قول الحقيقة.
منذ العام 1999 وبعد معارك طويلة خاضها الصحفيون تساندهم قوى مجتمعية جرى تنقيح قانون المطبوعات والنشر لترفع منه العقوبات السالبة للحرية، ومنذ ذلك الحين والحكومات المتعاقبة تتغنى بهذا الإنجاز التاريخي، ولتذكير رئيس الحكومة حين عدل قانون المطبوعات والنشر العام 2012 وفرض ترخيص المواقع الإلكترونية، خاطبت الحكومة مالكي ورؤساء تحرير المواقع الإلكترونية الإخبارية لتحثهم على الترخيص للاستفادة من مزايا الخضوع لقانون المطبوعات والنشر الخاص بالإعلام، والخالي من عقوبات التوقيف والسجن، ويا ليت للحكومة ذاكرة لتقرأ ما كانت تقوله للإعلام والرأي العام، فماذا تغير؟!
الان لم يعد قانون المطبوعات والنشر خاصا للإعلام الإلكتروني، وأصبح قانون الجرائم الإلكترونية هو الخاص والواجب التطبيق في جرائم القدح والذم، وساوى قرار الديوان بين الموقع الإخباري الالكتروني مع وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، "تويتر"، فلماذا كل هذا العناء، ولماذا رُخّصت المواقع الإلكترونية، إذا كان هذا مصيرها بعد أقل من ثلاث سنوات؟!
باعتقادي أن قرار ديوان التفسير الذي يتيح توقيف الإعلاميين حتى وإن لم يستخدم دائماً، يحقق أكثر من هدف، أبرزها عدم الحاجة للجوء الى قانون مكافحة الإرهاب بعد الانتقادات الواسعة لإحالة بعض الصحفيين والسياسيين ونشطاء شبكات التواصل الاجتماعي بموجب هذا القانون على خلفية كتابات سواء على "الفيسبوك" أو "التويتر" او على موقع إلكتروني، فقانون الجرائم الإلكترونية يحقق غاية "التأديب" والضغط سواء بالتوقيف أو حتى بالسجن.
الأمر الآخر أن المعرفة المسبقة عند الإعلاميين ومن يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بأن التوقيف والحبس أمر متوقع، سيزيد من الترهيب الواقع عليهم وسيزيد من فرضهم للرقابة الذاتية على أنفسهم.
يبدو أن الحكومة لا تأبه كثيراً لانتقادات وردود الفعل العالمية المنشغلة عن الديمقراطية بمحاربة الإرهاب، ولا أعتقد أنها قلقة من غضب الإعلاميين، ولا تخشى من رفض البرلمان لهذه التطورات، ولذلك فهي تعطي "غمازا على اليسار وتذهب لليمين"، تتحدث عن إصلاح الإعلام وتستخدم القانون كأداة قمع وتقييد.