هل لدينا أخلاق عامة فعلا!

يوما بعد يوم تثبت سلوكيات الناس في المجال العام حجم ما اصاب منظومات الاخلاق العامة من تهشيم واضمحلال. على سبيل المثال اي منطق يبرر استخدام العنف في الاحتجاج، والاقسى من ذلك ان يكون انتقاد هذا السلوك خجولا ومترددا وسط النخب وفي وسائل الإعلام، وهل يعقل ان نصطف الى جانب الواسطات والغش في علامات الطلبة في الجامعات ونمارس الضغط بل وتهديد ادارات الجامعات اذا ما حاولت التقدم خطوة في حماية النزاهة الاكاديمية، وهل يعقل ان نسمح هكذا بكل استرخاء وبلاهة للواسطات ان تحاصر كل مناحي الحياة حتى امتحانات الاطباء، وصولا الى قطع طريق عام من اجل مصلحة لفئة او مطلب ما. اضافة اعلان
المسافة بين القانون والاخلاق العامة تفسر جانبا من هذه الازمة، فإهمال الاعتناء بمرفق القانون يساهم في تهشيم مكانة الاخلاق في المجتمعات، والاهمال لمكانة الجدارة في الدولة والمجتمع تضرب بالعمق تطوير الاداء العام وتنشر الرداءة في مخرجات المؤسسات العامة وتخلق حالة من الاحباط والشعور بالخيبة واللاجدوى لدى الكفاءات ومن يستحقون بالفعل. هنا يتسيد منطق الواسطة والغش والارتجال والرشوة الاجتماعية قبل المادية والاسترضاء والابتزاز وتصبح هذه المعايير والقيم التي تسير الاخلاق العامة على الارض وفي سلوك الناس في الوقت الذي ينحصر فيه الحديث عن هذه الاخلاق وربطها بالصالح العام في مجرد ضجيج فارغ من الشعارات التي لا يدافع عنها الا القلة حينما يجد الجد.
نحن من الاجيال التي تربت على ان الاخلاق مرتبطة بالسلوك المادي للافراد، على سبيل المثال ملابس الناس ومدى ما تعكسه من احتشام او العلاقات بين الافراد او ما يأكل الناس وما يشربون، ندرك اليوم كم كانت مؤسسات التنشئة الاجتماعية ساذجة حينما حصرت الاخلاق العامة بهذه السلوكيات على اهميتها، وعلى هذا الاساس كنا نقارن دوما بين انفسنا والمجتمعات الاخرى وتحديدا المجتمعات الغربية التي طالما نعتناها بالفقر الاخلاقي.
الاخلاق العامة أحد المؤشرات الاساسية على سلامة مرفق القانون لأنها باختصار محصلة تراكم تطبيقات العدالة على مدى اجيال تتحول في لحظة الى قيم عامة وبالتالي هي علامة فارقة على صحة المجتمع والدولة وسلامتهما، لا يمكن القول ان هذا الشعب لديه اخلاق ومجتمع اخر لا يتمتع باساس متين من الاخلاق العامة، فلا توجد طبيعة اخلاقية ثابتة لمجتمع ما بل الاخلاق العامة هي حالة اجتماعية قابلة للتطور والتقدم والتأخر حسب الظروف.
كيف يفكر الناس في بلادنا في قراراتهم اليومية والمصيرية؟ ما هي الخلفيات التي تقف خلف تلك القرارات؟ ما دور كل من: الجهل والتضليل والخرافة والعلم والمعرفة والمصالح والدين الشعبي والعصبيات والصور النمطية والمواقف المسبقة والعلاقات الابوية والعلاقات الرعوية التقليدية والجديدة، اي معركة تغير اجتماعي وثقافي نحتاج؟ وكم من الزمن؟ وكم من الاثمان تتطلب؟ كل ذلك يُعنى بخلخلة بنى راكدة ترتبط بانماط الانتاج وعلاقاته وبانماط العيش والتفكير معا. في المقابل ما دور البنى المؤسسية في انتاج كل تلك الادوار بدءا من العائلة والعشيرة مرورا بالمؤسسات الدينية والمؤسسات الرسمية والمؤسسات المدنية.
علينا أن نتوقف عن الكذب الاجتماعي الجماعي والتناقض بين ما هو مطلوب وما هو ممارس على الارض. ان دور النخب ومؤسسات التنشئة ووسائل الإعلام لا يقل اهمية عن دور القانون فثقافة التستر والتريث في التعامل مع هذه الاختلالات لم يعد مقبولا اليوم فهذه المعركة لا تؤجل ولا تحتمل الانكار.