حل العودتين (3)

أول من أمس، زعم الرئيس الأميركي جو بايدن، في خطابه عن «الهولوكوست» أن ما وصفها بـ»كراهية اليهود» ما تزال مستمرة، وأن ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) هو دليل على ذلك. وقال إن «الدرس الأكبر من الهولوكوست بحق اليهود أن الكراهية لا تختفي، وإنما تختبئ». وأشار إلى أن هناك «صعودا مرعبا لمعاداة السامية في العالم وأميركا ومواقع التواصل الاجتماعي. وقال إن إدارته تبذل كل جهد ممكن لإطلاق سراح «الرهائن»، ودعا «كل الأميركيين إلى أن يقفوا متحدين ضد معاداة السامية في أي مكان».

اضافة اعلان


يندر أن يجتمع عدد من المغالطات في مكان واحد أكثر مما جمع بايدن في كلمته. كانت كل عبارة تقريبا مغالطة واضحة. وفي الأطروحة العامة لكلمته، لم يكن ما قاله يكرم ضحايا إبادة جماعية بقصد منع تكرار جريمة الإبادة الجماعية، وإنما استخدام إبادة بطريقة غير أخلاقية على الإطلاق لتبرير –والحث على- إبادة جماعية. ولم يكن اعتذارا لليهود، وإنما دفاعا عن الصهاينة حتى ضد اليهود الكثيرين من غير الصهاينة. وفي السياق الراهن، كان ينبغي أن يُسمى ما قاله «خطاب معاداة الفلسطينيين وإبادتهم».


بدا من الخطاب أن رئيس الولايات المتحدة لا يعرف الفارق الراسخ والمسجل بين «معاداة السامية» و»معاداة الصهيونية». يغلب أن الفارق مر عليه، لكنه اختار أن يبدو جاهلا وينحاز بشكل متعصب أعمى إلى أيديولوجيا استعمارية، إقصائية، إبادية، مكروهة كما ينبغي أن تكون. وما وصفه بأنه صعود مرعب في «معاداة السامية»، (يقصد الاحتجاجات العالمية ضد الإبادة الجماعية للفلسطينيين وتجريدهم من حقوقهم وإنسانيتهم)، هو معاداة مستحقة لفكرة هيرتزل الصهيونية الأساسية:

 

ضرورة وجود دولة تجمع كل اليهود في فلسطين، وطن الفلسطينيين التاريخي الذي كانوا يشكلون فيه في ذلك الوقت أكثر من 90 في المائة من السكان. ولم تكن الفكرة ذهاب اليهود إلى هناك للاندماج والعيش مع أصحاب الأرض، وإنما التخلص منهم والحلول محلهم وإخراجهم من التاريخ جملة وتفصيلا.


إن الحقيقة التي يستفيق عليها العالم الآن هو الكراهية المستحقة لهذه الأيديولوجيا، أيا كان الذين يعتنقونها وينفذونها، أو يناصرونها أو يتسامحون معها، ومهما كان دينهم أو لونهم أو مكانهم في العالم. وفي الحقيقة، لم، ولا، ولن تكون للفلسطينيين مشكلة مع اليهود كيهود. ثمة يهود فلسطينيون وعرب عاشوا مواطنين أصليين عربا عزيزين مثل أي أحد آخر. كانت مشكلة اليهود مع الأوروبيين. وكان الذين لديهم مشكلة مع اليهود هم الأوروبيون.


كانت أوروبا هي ذبحت اليهود ولفظتهم، وكانت أميركا هي التي رفضتهم. وكما كتب شلومو ساند في صحيفة «هآرتس»، فإنه «من العام 1882 حتى العام 1924، تدفق اليهود بحشودهم -حوالي 2.5 مليون- على قارة الوعد، أميركا الشمالية.

 

ونعم، لولا «قانون جونسون ريد» العنصري للهجرة الذي منع هجرتهم، لربما كان قد تم إنقاذ مليون -أو ربما مليونين- آخرين من تلك الأرواح».


ويضيف: «ولدت بعد الحرب في معسكر للنازحين في النمسا. خلال العامين الأولين عشت مع والدَّي في مخيم آخر في بافاريا. أراد والداي، اللذان فقدا والدِيهما في الإبادة الجماعية النازية، التسلل إلى فرنسا أو، الهجرة إلى الولايات المتحدة.

 

ولكن، تم إغلاق جميع البوابات في وجهيهما... الحقيقة هي أنه كان من الملائم


لأوروبا، بعد مشاركتها في المذبحة الجماعية لليهود، إخراج بقايا سكان أصليين لم يشاركوا في القتل المروع، لتخلق بذلك مأساة جديدة، وإن كانت على نطاق مختلف تماما».


أين الفلسطينيون من «معاداة السامية» التي صممها ونفذها ونظر لها أسلاف جو بايدن؟ الفلسطينيون فقط شعب مُستعمر. ولو كان الذين غزو فلسطين بنية الاستعمار –ناهيك عن استعمار استيطاني إحلالي- من أي دين أو ملة أو جنس أو لون، فإنهم سيكونون العدو والنقيض الوجودي للفلسطينيين -وليس الفلسطينيين فحسب، بل لكل الكارهين لهذا النمط غير الإنساني من علاقات القوة، القائم بطبيعته على الإلغاء والإبادة الجماعية. ومن المناهضين لهذا النمط الكثير من اليهود الذين ينأون بأنفسهم، بل ويعارضون علنا وعمليا كما ينبغي، المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، ويستجيبون للنوازع الإنسانية الطبيعية التي يقبلها الحس السليم، وينحازون إلى ما يمليه كل ضمير حيّ.


في مقال نشر في صحيفة «وول ستريت جورنال»، قال جو بايدن: «الجيش الإسرائيلي يمتلك التكنولوجيا اللازمة للدفاع.. إيران تريد تدمير إسرائيل ومحو الدولة اليهودية الوحيدة في العالم ولن نسمح بذلك.» في المقابل، ليس للفلسطينيين، الذين يطابقون بالحرف التعريف المعياري لـ»الشعب»، دولة. إنهم ما تمثله العبارة الإنجليزية الراسخة وواضحة المعنى، ومرادفاتها في لغات العالم: stateless people، ليس لأنهم أناس مرتحلون جاءوا من العدم بلا جذور وأصل وتاريخ وثقافة ومنجز وحضور، ولكن بسبب بايدن نفسه كجزء من السياق التفوقي الاستعماري المعادي للإنسانية. لماذا لا يدعم بايدن، والمتوافقون مع خطابه المتهافت، إبقاء الفلسطينيين في وطنهم الطبيعي، واختيار أي قطعة أرض من أميركا الشاسعة أو أي بقعة في أرض الله الواسعة ويجعلها دولة للصهاينة؟ كان أحد هؤلاء قد اقترح بناء جزيرة اصطناعية للفلسطينيين، وهو اقتراح يليق تماما بـ»الدولة اليهودية» المحبة للانعزالية بطبيعتها.


كان ما فعلته المؤسسة الإمبريالية الاستعمارية التي ينتمي إليها بايدن، وما تفعله، هو محو «الدولة الفلسطينية الوحيدة في العالم» في إطارها التاريخي والجغرافي الطبيعي. لماذا «الدولة اليهودية الوحيدة في العالم» يجب أن تختلق بشرط محو الدولة الفلسطينية الوحيدة في العالم؟ سيحدث ذلك بالضرورة بازدراء عناصر المنطق، والمعطى الوجودي المادي التاريخي والموضوعي للشعب الفلسطيني، والاختلاق القسري اللا أخلاقي التلفيقي لما يُدعى «الشعب اليهودي» كمكافئ مفاهيمي ومتحقق للاستعمار الاستيطاني الوحشي الإجرامي. وعلى كل المؤمنين، والمواقفين، والمتواطئين مع هذا الموقف اللاأخلاقي المتجسد في الكيان اللا أخلاقي، أن يجيبوا عن سؤال وجود الكيان الصهيوني بهذه الصفات، في فلسطين –بل وفي العالم. (يُتبع)

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا