ودود وطيب.. وسادي!

كنتُ أظنُ أني إنسان ودود، اعتقدتُ طويلا أن هناك إجماعا على أني دمث، وطيب وكثير الخير مثل حبة البركة، وحسِبْت أني متسامح ولي خدان طريان لتلقي صفعات المحبين. لكني قبل عام في نقاش سياسي عام، اضطررتُ لحظر شخص أصفر الوجه، حاد اللسان، من دخول بيتي الأزرق. كان هذا اكتشافا مذهلا، أنْ تمنع شخصا من رؤيتك، وتكتم صراخه كما تفعل مع مذيع الأخبار حين يبالغ بالكذب. ربما شعرت بندم طارئ، فأنا "ودود ودمث وطيب ومتسامح ولي خدان طريان"، ومن المفترض أن لي صدرا واسعا، فقررت أن يكون ذلك الشخص الأصفر أول وآخر قائمة الحظر والخارجين كالشياطين من جنتي الزرقاء. لكني اضطررتُ مرة أخرى، أنا الودود الطيب، لحظر شخص آخر بدرجة صديق بعيد، كنتُ في مزاج سيئ، ولم أستسغ تعليقا ساخرا له على اللون الحار لربطة عنقي. لم أشعر هذه المرة بأي ندم، بل اني في مساء اليوم نفسه حظرتُ زميلا في العمل كان أثناء النهار يدندنُ بصوت أخنف بأغنية هابطة، وفي صباح اليوم التالي، اقتلعتُ امرأة أرسلت لي رسالة مليئة بأدعية لا تضرني. يبدو أني صرتُ، أنا المتسامح ذو الخدين الطريين، عصبيا، نزقا أعاركُ الذباب الذي يقترب من وجهي، ولهذا اتجهتُ لصفحة الساعي في مؤسستنا ومسحتها من بيتي الأزرق، فهو يصرُ على تقبيلي بدون أن تكون هناك أي مسافة للشوق. اتسعت قائمة المطرودين. أضفتُ إليها نساء كثيرات لم يستجبن لكلام غزل كثير الاستعمال، وأخريات توددن عبر المَعِدة بإرسال صور لأطعمة يفترض أنها من صنع أيديهن، ورفاقا هزموني في ورق الشدة، وصديقا ظهر لي أنه قرأ تحيتي ولم يردها، وأقرباء فضوليين يراقبون بيتي من شرفات صفحاتهم، وأقران الطفولة الذين يحفظون عني أمورا مخجلة، وكل المشجعين لفريقي المنافس، والمؤيدين للنظام الديكتاتوري في الشمال، والذين يريدون للحرب أن تستمر، والذين يستعجلون السلام بأرخص ثمن، كل نساء برج الدلو، وكل رجال برج الثور، والذين صادفتهم في صباح مشؤوم حين انمحت من نظري الفوارق البسيطة بين الديك والأرنب. أدخلُ كل يوم إلى القائمة شابكا الكفين خلف ظهري، أرمي إليها اسما أو أسماء، أتجولُ فيها مثل سجان سادي، أقترب من اسم صديق قديم كنا قد اختلفنا على شأن مستجد قليل الشأن، أؤشر لرفع الحظر، ثم أتراجع لأعفو عن جاري الذي صوب أخطاءه. رأيتُ أسماءهم، وقرأتُ ملامحهم، كنتُ ألمح ابتسامات، أجتهد في تفسيرها إن كانت استهانة أو سخرية أو استعطافا، أما الوجومُ فقد تجنبتُ تفسيره، كما يتجنبُ الطغاة تأويل الكوابيس.. منحتهم نظرة شاملة، أظهرتُ فيها بعض الرحمة واللين، لأعطي إشارات أني قد أصدر عفوا عاما في أي مناسبة مقبلة، عيد الأضحى مثلا، وربما في عيد الشجرة، أو لشعوري الطارئ بفرح غامض. تجوَلت في بيتي الأزرق، كان يبدو خاليا مثل الساعات الأولى لحظر التجوال، فقد تناقص عدد المارة، واختفى الجالسون على الشرفات، هكذا صرتُ حرا أفعلُ ما أشاء، قد أغني وأنقر على الدف، وقد أجلس نصف عار، وأتعلم نفث الدخان. خرجتُ إلى الشارع، لم أرَ جاري الفضولي، مشيتُ أكثر، لم أصادف أحدا من المارة، حتى الأصدقاء أو من كنتُ أظنُ أنهم كذلك لم أعثر على أي منهم في الأماكن المعتادة، ومكان العمل بدا مهجورا إلا من المكاتب والأجهزة الصماء. كلُ الذين وضعتهم في قائمة "البلوك" في بيتي الافتراضي الأزرق لم أجدهم في أماكنهم الحقيقية. فتحتُ هاتفي، ذهبت إلى القائمة، رفعت الحظر عن جميع المعتقلين، صافحتهم بود، وأغدقتهم دماثة، وسالَتْ طيبتي، وقبلتهم مثل عائد من الأسْر.اضافة اعلان