أنا مقاطع.. لماذا؟

في المجتمعات الحيّة، يمثل اتخاذ قرار في شأن عمومي له مساس بالمجتمع ككل، كمقاطعة الانتخابات أو المشاركة فيها، رسالة يوجهها الفرد أو الجماعة إلى الدولة وصناع القرار، تحتج بشكل واضح على سياق معين، أو اتجاهات أو قوانين.اضافة اعلان
تلك الممارسة شائعة في المجتمعات الحية التي تؤكد دائما على حقها في المساهمة في التغيير الذي تريده، لذلك فإنها تشارك بقوة في أي انتخابات طالما رأت أن في قدرتها تغيير ما لا ترضى عنه، ويتصل بسياق حياتها المباشر. وهي لا تلجأ إلى المقاطعة إلا إذا وازنت بين الأمرين، وتأكدت أن عدم المشاركة هو السبيل الوحيد لتحقيق ما تريده، وهي بذلك تكون فاعلة في الشكل الذي اختارته لممارسة حقها.
رأينا كيف أن حزب جبهة العمل الإسلامي ناقش قراري المشاركة والمقاطعة في الانتخابات النيابية المقبلة، وتدارس قانون الانتخاب الجديد، ورأى أنه يمتلك ضمانات معقولة لمنافسة عادلة لأفراده، ليقرر المشاركة في انتخابات أيلول (سبتمبر) المقبل. وهو بذلك تعامل بإيجابية مع ما هو مطروح، ويأمل في أن يوصل بعض مرشحيه إلى البرلمان المقبل، ويترك بصمة ما في أدائه.
هذا مثال مهم جدا لاستشراف الكيفية التي تتعاطى بها القوى الحية مع المتغيرات الحاصلة في الأردن والإقليم. ومع التأكيد أن الحرية، بأشكالها جميعا، تتيح لأي شخص اتخاذ قرار المقاطعة، إلا أن ما يتم تداوله في الأحاديث الشعبية ومواقع التواصل الاجتماعي من مبررات المقاطعة، يبقى هزيلا، ولا ينم عن أي نضج سياسي، ويقفز عن حقائق مهمة، نتواطأُ على نسيانها باستمرار.
في كثير مما يدور من أحاديث في "الحوارات الصماء"، يتهكم "مقاطعون محتملون" على أداء نواب خلال البرلمانات السابقة، ويرون أنهم ساهموا في إضعاف الدور الحقيقي للنائب، وجَعْله مجرد صورة لـ"وظيفة" اجتماعية، وإلغاء دوره السياسي والتشريعي. غير أن هؤلاء "المقاطعين المحتملين" يغفلون تماما عن أن "فساد الناخب" نفسه هو ما أوصل كثيرا من غير الكفوئين إلى قبة البرلمان، وإعطائهم الحق في ممارسة الاجتهاد في أمور عديدة، بعضهم لا يفقه فيها بتاتا.
إن كان ثمة من ينبغي أن يشار إليه باتهام في إضعاف دور مجلس النواب، فهو بالتأكيد سيكون الناخب، خصوصا أن كثيرين آثروا الانحياز إلى منافع شخصية تتعلق بالعائلة والعشيرة والعلاقات الاجتماعية، وبعضهم باع ذمته بالنقود، في انهيار قيمي وأخلاقي صارخ، ما أوصلنا إلى مجالس صورية بلا أي فاعلية، ولا أي قرار مستقل.
الخلل الحقيقي يكمن في الناخب، حتى لو غالطنا الحقيقة، وبقينا مصرين على تعليق جميع آثامنا على مشجب "قانون الصوت الواحد"، الذي وإن كان سيئا وغير عادل، إلا أنه لا يجوز لنا أن نحمّله جميع آثام مخرجات العملية الانتخابية.
اليوم، نحن على أعتاب انتخابات جديدة بقانون انتخاب جديد، وثمة كثير من المتفائلين بالمرحلة النيابية المقبلة، وبدور أكبر للمجلس. لكن لنتذكر دائما، أننا ندخل هذه الانتخابات بالناخب نفسه الذي أعطى صوته للمجالس السابقة، ومنحها بركته لتتحدث باسمه، من غير أن تمتلك أي مؤهلات لهذا الدور.
الناخب أولا.. والناخب أخيرا؛ فإما أن يمارس حقه الانتخابي بوعي حقيقي يوصلنا إلى مجلس نواب يستطيع تمثيلنا بنزاهة ووطنية، أو ينحاز إلى عصبيته ومناطقيته ومنافعه من جديد، لنعود بعدها إلى ممارسة هوايتنا المفضلة في التهكم على النواب وممارساتهم، ونتنصّل من إثمنا ومسؤوليتنا الأخلاقية في إيصالهم إلى تحت القبة.