"اسمي، اسمي خلوي"!

زميلٌ لي في العمل رفيعُ البنيةِ والخلق، هادئُ الحضور مثل مشي مُرْتَبِكٍ على سورٍ متينٍ، يَردُّ التحيَّةِ بمثلِها، وفي هدوءٍ كالخشوع يزيدُها بما هو أحسن منها. إنْ كنتَ تراهُ لأول مرَّةٍ ستصافحهُ بمحبَّةٍ قديمةٍ، وتضغطُ بودٍّ على كفِّهِ الرقيقةِ، وتسأله بتراتبيَّةِ الحوار البكر عن اسمه، فيجيبُ بحذر الأطفال من الدعابة الثقيلة: "اسمي خلوي"!اضافة اعلان
كانَ السائلُ يبتسِمُ بخجلٍ ويطلبُ توضحياً أكثرَ عن معنى "الاسم الغريب". يُطرقُ "خلوي" رأسه حين لا يجدُ جواباً سلساً يختصرُ ما قاله أستاذُ العلومِ في المرحلَةِ الابتدائيِّةِ..، كلُّ ما يتذكره أنَّ اسمه ينتسِبُ إلى الخلايا الضوئية التي سيدرسُها في الصفوفِ المتقدِّمَةِ بمنهاج "الفيزياء". تصيرُ ابتسامة السائلِ ضحكةً صريحة، ويستكملُ الحوارَ بشرحٍ إضافيٍّ يفرزُ شيئا من الماء على جبين "خلوي"، فيقتصره ردُّه على الدعاء، في سرِّه، لوالده بالسماح. ويقولُ في سرِّه البسيط أيضا: ليس ذنبي أنَّ جدِّي كان "خلويا" في زمان الاتصالِ بـ"النميمة"!
كان هذا قبل خمسة عشر عاما أو أقل، عندما قرَّر اللغويون توريط "خلوي" أكثر في مشكلته مع اسمه الذي منحوه إلى جهاز متنقل للثرثرة. لم يقدِّم اللغويون مسوِّغا مقنعاً قيلَ إنه مشتق من "الخلوة" أو أنَّه من "الخلية" لم يعد مهما المبرر أيا كان، فقد صارت معاناة الشاب الرقيق الخلقِ مضاعفة مع اسمه، فحين تشاهده أول مرة تأسركَ دماثته، تودُّ التعرُّف عليه أكثر، تسأله عن اسمه فيجيب بتردد، تضحك وتُكرِّر السؤالَ بلؤم مكشوف، فيردُّ بصبره الطويل: "اسمي، اسمي خلوي"!
كنتُ قد تعرَّفتُ على "خلوي"..، وكانَ اسمه مسلياً للأصدقاء الودودين الذين يحاولونَ تبديدَ نكد الدوامِ الطويل بدعابات سريعة، يردُّ عليها صاحبنا بابتسامةٍ صبورَةٍ، لكنَّ الحركة الدؤوبة لإنتاج الهواتف في الدول الصامتة لم تُتِحْ له رواقاً دائماً، فكلَّما تمَّ ابتكارُ نوعٍ جديدٍ من الهواتف كان ذلك مناسبة للثرثرة في بلادنا، وإطلاق النكاتِ على الهزائم لتحلية المرارة. انشغَلَ الناسُ بـ"الكلام المُباع"، وحده "خلوي" زادت نقمته على اللغويين الذين أخذوا تسميَةَ الهاتف المتنقل بجد بالغ، فلو أنهم تساهلوا قليلاً في تعريبه وصار "المحمول" أو "الجوال.."؛ لكانَ متخفِّفاً من الحَرَج، فلو أنَّهم تخلوا عن الاجتهاد وتركوا للهاتف اسمه الأعجمي "موبايل"، أو أنهم على الأقل اجتهدوا أكثر في التفصيح وأصبَحَ "الخِليَوي"!
جرى ما جرى ولم يَعُدْ الأمرُ يُثيرُ غيظَ "خلوي" المُكابِر. والحقيقة أنَّ الأصدقاءَ الودودينَ واللدودينَ، والناس جميعاً، انشغلوا تماماً بالثرثرَةِ وتركيبِ الأسماءِ على الأرقام. تلتقي بشخصٍ ما، ليس من الضروريِّ أنْ يكونَ رفيعَ البنيةِ والخلق، تبادرهُ بالتحيَّةِ فيردُّها ناقصةً، وإنْ كنتَ تراهُ لأول مرَّةٍ ستصافحه باستعجالٍ، والسلام لا يبتعدُ أكثر من أطراف الأصابع، ستسأله بتراتبية الحوار البكر عن اسمه، فيجيبُ باندفاع الأطفال نحو الألعاب الخطرة: "رقم الخلوي..."!
و"خلوي" اليومَ ما يزالُ إنساناً طيبِّاً لا يُحبُّ الشماتة. لم يبدر منه ما يشي أنَّه فَرِحٌ بانتهاء الناس، والأصدقاء الودودينَ واللدودينَ، إلى مجرَّدِ أرقام تتشابَهُ في بدايتها وتفترقُ عند نهايات متوقعة من 0 إلى 9، والأفضلية بينهم محدودة وفقَ خصائص متقاربة حدَّدَها مهندس أعجمي شديد التوازن. لم تبدُ على "خلوي" الرغبة بالضحك على المصير الأخير للناس، بوصفِها "خلويات" تتعارفُ وتتزاوجُ وتعِدُ، ثمَّ تنكثُ الوعد عبر رقمٍ يوكلُ مهمَّةَ تحديد مصيره إلى صوت أنثوي إلكتروني ضليع بالكذب: "الرقم المطلوب لم يعد بالخدمة"!
لكنَّ "خلوي" ما يزالُ يردُّ التحية بأحسن منها..؛ ويجيبُ بشوق الأطفال لمداعبة الناس المرضى: "اسمي، اسمي خلوي"!

[email protected]