التعددية حماية من الانقسام

ثار في المجتمع البريطاني، في منصف نيسان (أبريل) الماضي، نقاش وجدل واسعان بشأن ما إذا كانت بريطانيا دولة مسيحية أم لا. وقد انطلق ذاك النقاش على إثر وصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بريطانيا بـ"دولة مسيحية"؛ فقامت أكثر من 50 شخصية عامة في بريطانيا، منهم روائيون ودبلوماسيون ومؤلفو مسرحيات وحائزون على جوائز نوبل، باتهام كاميرون بإشعال جذوة الانقسام في المملكة المتحدة من خلال الحديث عن دولة مسيحية بريطانية؛ كما أفادت صحيفة "الغارديان".اضافة اعلان
ويمكن لنا أن نحدد مضمون اعتراض هذه الشخصيات أو نقدها في النقاط الآتية:
أولاً، أشارت تلك الشخصيات البارزة إلى أن الاستفتاءات والدراسات المتكررة تفيد بأن معظم البريطانيين ليسوا، في حقيقة الأمر، مسيحيين في اعتقادهم. ثانياً، ذكروا في مجمل نقدهم لكلام كاميرون أن بريطانيا مجتمع تعددي، وأن للبريطانيين وجهات نظر متعددة، تدل في مجملها على أن المجتمع البريطاني يعد مجتمعا غير متدين، وأن التصريح بغير ذلك يؤدي إلى النفور والانقسام في المجتمع.
ثالثاً، لفتت تلك الشخصيات النظر إلى أن من الصواب في الوقت ذاته الاعتراف بالإسهامات التي قام بها الكثير من المسيحيين والمتدينين البريطانيين في المجال الاجتماعي للبلاد، لكن في المقابل فإن محاولة إظهار مساهماتهم على أنها استثنائية عند مقارنتها بالبريطانيين على مستويات مختلفة، هو أمر من شأنه أن يغذي الاختلافات الطائفية، بحسب تلك الشخصيات، والتي هي غائبة الآن عن حياة معظم البريطانيين الذين، كما تظهر الاستفتاءات، لا يريدون للأديان أن تكون أولوية حكومتهم المنتَخبة.
مثل هذا النقاش يُظهِر أن سؤال الدين وموقعه في الحياة العامة ما يزال سؤالاً حاضرا بقوة في عالم اليوم؛ في الغرب كما في الشرق. لكننا في المنطقة العربية على وجه الخصوص، وفي الدول الإسلامية بشكل عام، نكاد نفتقد لمثل عمق ووضوح هذا النقاش بشكله الذي يدور في بريطانيا، على سبيل المثال. ذلك أن الحوار حول إشكالية الدين والهوية والسياسة في الغرب يبدو أكثر تنظيماً وقدرة على تحديد نقاط التوافق أو الاختلاف، مما هي الحال في العالمين العربي والإسلامي؛ في ظل الفوضى المفاهيمية حول الهوية والمجال العام، وموقع الدين في الحياة العامة ووضعه في سياق شروط الحداثة وتطور الاجتماع الإنساني.
ومع الأخذ بالاعتبار الفارق بين السياقين الثقافيين، فإن المفترض أن تكون المراحل السياسية والفكرية والاجتماعية الانتقالية التي تمر بها كثير من المجتمعات العربية منذ سنوات، حافزاً لإدارة نقاشات أكثر تحديداً وتنظيماً ووضوحاً وجرأة بشأن منظومة الأفكار السائدة. وإذا أردنا أن ننزل كلامنا هذا على الواقع، فلنا أن نتساءل، مثلا: هل من تأثير للأزمة السورية في أنماط التدين وموقع الدين في المجال العام ومشاريع النهوض؟ مثل هذا السؤال يكتسب راهنيته من أنّ اكتشاف عورات الأحزاب الإسلاموية في سورية ولبنان ومصر وليبيا وغيرها لم يفرز حالة أنضج من التديّن، وضبطا للحدود بين الثابت والمتحول في الخطاب الديني.
بريطانيا ما تزال مصرّة على انتهاج التعددية الدينية والثقافية في إدارة مجتمعها بجميع أطيافه، والمؤسسات الديمقراطية الراسخة فيها أكبر داعم وحامٍ لهذا التوجه، وفي هذا مصلحة مؤكدة للجاليات العربية والمسلمة في الغرب. وعلى الرغم من أن صعود اليمين والشَعوَبيين في أوروبا يعدّ مصدر تهديد لمنطق التعددية هذه، وبابا للنزعات العنصرية ضد الأجانب والمهاجرين والمسلمين، فإن ثمة عقلاء ما يزالون يرفضون التضحية بالحريات المتوافرة للجميع في المجتمعات الأوروبية، وهم يرفضون أيضا أن تكون أوروبا لقمة سائغة بيد الشَعوَبيين والمتطرفين واليمين السياسي.
السؤال: أين الجهود العربية والإسلامية لتعزيز التعددية في أوروبا، وكبح جماح عنصرية اليمين السياسي؟