المدن: من اليقين إلى الثقة

تعبر المدن القائمة عن المجتمعات الصناعية واقتصاد الخدمات، وامتدادات وتأثيرات الزراعة. فهل ستشهد تحولات في ظل اقتصاد المعرفة؟ ما الاتجاهات الممكنة للمدن والتمدن في مرحلة جديدة تختلف عما مضى؟اضافة اعلان
تحكي المدن قصة الإنسان في سعيه إلى الاستقرار، بما يعني ذلك، بطبيعة الحال، العدل والأمن وفرص البقاء، من غير حاجة إلى الرحيل بحثاً عن الطعام والدفء والأمن. احتاج الإنسان لأجل ذلك قروناً طويلة من الإبداع والتطوير. وعندما استطاع توفير أدوات وتقنيات البقاء طوال العام، وجد أنه بحاجة إلى تنظيم اجتماعي يحمي الاستقرار، وينظم تبادل الوفرة في السلع، فكانت المدينة من"الدين"؛ بمعنى العدل أو القانون.
كان الفلاح يمضي في الصباح الباكر، يسوق بقرته أمامه، ذاهباً إلى حقله وعائداً إلى بيته، في إيقاع واحد منتظم، لا يستطيع أن يسرع أو يبطئ أكثر من سرعة البقرة. ماذا يعني ذلك؟ يجب أن يكون آمناً. فأنت لا تستطيع الهرب إذا هاجم الأعداء قريتك! تحتاج لأجل حماية القرية والمحاصيل إلى تنظيم اجتماعي وعسكري قادر على الردع. وفي شغل الناس وقلة عددهم ومحدودية الوفرة، يطورون منظومة من العلاقات والتعاون لصدّ الناس وشرهم أو للاحتماء منهم. لا يملك الفلاحون الرغبة والوقت للقتال، فينشئون علاقات سلام واحترام وتعاون متبادل، ويحمي الناس مصالحهم وحياتهم وأسواقهم بمنظومة من القوانين والأعراف وتبادل المصالح، وتكون القوة مسألة احتياطية.
وفي ظل الصناعة، تشكلت المدن في السياق نفسه تقريباً؛ الذهاب إلى العمل في الصباح والعودة في المساء. فالحركة اليومية للمواطنين في الصباح إلى عملهم ومدارسهم وجامعاتهم، والعودة في المساء إلى بيوتهم، تشكل مرشداً رئيساً في تخطيط المدن والإقامة والطرق والمواصلات، والثقافة والسلوك الاجتماعي، وأسلوب الحياة أيضاً. وتمثل هذه العمليات اليومية مصدراً للمشكلات والمراجعات والأفكار، في سلسلة طويلة من التداعيات، لدرجة يمكن القول معها: "ما السياسة والاقتصاد والثقافة، سوى تشكل حول هذا الأسلوب في العمل والحياة".
الشبكية اليوم تغير في طبيعة وأنظمة العمل والتعليم، وتتيح إنجاز مجموعة واسعة من الأعمال بلا حاجة لدوام منتظم، ولا حاجة للذهاب إلى المكاتب والمؤسسات. ويمكن أن تقل الحاجة للمدارس والكليات، أو تتضاءل كثيراً أيام وساعات الذهاب إليها؛ فالتعليم والتعلم من خلال الإنترنت والألواح الإلكترونية أصبح ممكناً جداً. وفي ذلك يمكن أن يتغير اتجاه تخطيط المدن والبيوت والشوارع. فإذا زادت نسبة هذه الأعمال ولم يعد ثمة حاجة للرحلة اليومية في الذهاب والعودة، فإن المواطنين لا يحتاجون إلى الإقامة في مكان محدد، طالما أنه يمكن لهم إنجاز أعمالهم من أي مكان.
ويمتد التغيير إلى البيوت لتلائم العمل والشوارع والأسواق، والأندية والخدمات لتلائم حالة وجود الناس طوال اليوم في بيوتهم أو قريباً من بيوتهم، ولتصل إليهم في إقاماتهم الجديدة. فقد تزدهر الضواحي والأماكن البعيدة.
سوف يتغير توزيع الوقت والاهتمام أيضاً؛ فيستطيع المواطن ممارسة الرياضة في الصباح، والبدء بالعمل في منتصف النهار، ثم يجد وقتاً أفضل للقراءة والموسيقى والهوايات. كما يتغير دور الأسرة أيضاً، لأنها تتحول لتكون العمود الفقري في تعليم الأطفال.
ويتغير تصميم البيوت وأسلوب الحياة كله، ليلائم العمل والتدريس والتعليم والتعلم في البيوت. ويفترض أن يتغير نظام عمل المؤسسات، بخاصة تلك التي تتعامل مع الجمهور، فتكون متاحة معظم ساعات اليوم. وفي ذلك يمكن للمواطنين تنظيم حياتهم وأعمالهم على مدى واسع من اليوم. ويمكن كسر حالة الزحام الشديد في النقل والمواصلات لتكون الأزمة أقل حدة، وربما لا يعود هناك أزمة.
وعلى أي حال، سواء تغيرت هذه الحال (التغيير قادم لا محالة) أو بقيت كما هي، فإن الاستجابة الصحيحة هي "الفردية". فماذا غير هذه الفردية يمنح الإنسان الثراء الروحي والفكري والمناعة الاجتماعية والاقتصادية، ويحميه من الهشاشة والخواء؟ فحياة الإنسان وعمله يجعلانه تعيساً وضئيلاً وضحلاً، وتنشأ بطبيعة الحال أدوار مبالغ فيها أو في غير محلها الصحيح، للروابط والمؤسسات الدينية والقرابية.
التمدن، على النحو المنشئ للفردية والتماسك الاجتماعي المديني في الوقت نفسه، هو الاستجابة الصحيحة لمواجهة التطرف والخواء. وأسوأ ما يصيب أهل المدن هو عندما لا تعود مؤسسات المدينة قادرة على تلبية تطلعاتهم، أو عندما تعمل في اتجاه آخر بعيداً عن ذلك.