بداية ونهاية جيوش عربية

مع خروج النسخة العسكرية للاستعمار، واجهت الشعوب العربية مهمة بناء الدولة بكل ما تنطوي عليه من تحديات وتتطلبه من إرادة ودراية. وكان على قيادات ما بعد الاستقلال تحمل عبء إدارة عملية البناء التي يحتاج نجاحها إلى وجود جبهة وطنية عريضة، تضم قوى سياسية منظمة، ومؤسسات مدنية، تتولى اختيار قيادات تتمتع بالحضور الوطني والتأييد الشعبي، وتمتلك الرؤية والإرادة الكافية لأداء مهام رجال الدولة.اضافة اعلان
الشعوب العربية التي انتقلت من دائرة التخلف في الدولة العثمانية إلى تعسف الاحتلال الأوروبي مباشرة، ما كانت لتتمكن من إنتاج الأحزاب الفاعلة والمؤسسات المدنية القادرة على إقامة جبهة وطنية تناط بها مسؤولية البناء. ما جعل قيادات مرحلة التحرر تتولاها شخصيات وطنية ينتمي أغلبها إلى الملاك والتجار والطبقة الوسطى، ومن ضمنهم ضباط الجيش ذوو الميول الوطنية.
بهذه المقدمات التي مهدت لحضور ضباط الجيش في مرحلة التحرر والمشاركة في قيادتها، وبما وفرته لهم رمزية الجيش من صورة تجتمع فيها معاني الانضباط والتنظيم والدفاع عن الوطن، تهيأ لهم قدر من الشرعية لمزيد من المشاركة في قيادة مرحلة التحرر، ومن ثم، وفي وقت لاحق، لأداء دور في قيادة إدارة بناء الدولة إلى جانب القيادات المدنية كأعضاء في مجالس الحكم وأجهزة الأمن الوطني والهيئات المرجعية والاستشارية.
في ظروف خاصة لاحقة نالت الجيوش قدراً من الشرعية للتدخل في مواجهة الحكومات التي يفترض أنها حائزة على ثقة ممثلي الشعب المنتخبين، عندما كانت تلك الحكومات تفشل في إدارة شؤون الدولة، على نحو يحفظ الأمن والاستقرار، ويحقق التنمية المطلوبة، ويحافظ على السلم الاجتماعي. فكيف لهذه الجيوش أن لا تنال شرعية أكبر للتدخل في إدارة الدولة والتطلع لقيادتها إذا ما تعلق الأمر بحكومات غير منتخبة ضلت طريقها، وبدت فاقدة للتأييد الشعبي ولشرعية الإنجاز في آن معاً.
في ظل أنظمة حكم فقدت ارتباطها بالشارع، ومع حكومات تعثرت خطاها على طريق بناء الدولة الديمقراطية المستقرة، ركنت الجيوش العربية لما كانت حصلت عليه من بعض الشرعية للتدخل في قيادة إدارة بناء الدولة. وكان ذلك إيذاناً بتضخم تدخل الجيوش في قيادة العديد من الدول العربية مباشرة كما في الانقلابات، أو بصورة غير مباشرة كشريكة لدوائر صنع القرار لقاء ما تقدمه من حماية لها. نقلة قادت إلى تحالف غير مقدس بين نخب الحكم المدنية والعسكرية لم يتأخر رأس المال عن الانضمام إليه، لتصبح الطريق ممهدة لنشوء دكتاتوريات تنتمي لقرن سابق.
اليوم، يكشف الربيع العربي عن تحالفات وبنى أنظمة الحكم الدكتاتورية في كثير من الدول العربية. ويكشف أيضاً عن حجم الأضرار التي لحقت بالمجتمعات العربية جراء التواطؤ الذي نسج خيوط التحالف بين نخب الحكم المدنية وقيادات الجيوش وأصحاب رؤوس الأموال، وأفضى إلى الفساد والقمع والفقر.
الجيوش الضالعة في تحالفات مصلحية مع أنظمة الحكم الدكتاتورية تقف اليوم عقبة أمام ربيع الشباب. في مصر يحول الجيش دون مضي الشعب على طريق ثورته، وفي اليمن يقف الجيش في أغلبه إلى جانب الطاغية، وفي سورية يولغ بدماء الثوار المطالبين بالحرية. وكأنما كتب على الشعوب العربية أن تدفع ثمن حريتها مرتين؛ مرة أمام جيوش المستعمر، وثانية أمام ما يفترض أنها جيوش بلادها!