"دعوهم يطبخون بعضهم"

هل تكرس استقالة موفد اللجنة الرباعية الدولية المكلفة بملف خارطة الطريق وتداعيات الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني المزيد من التهميش للقضية وخيار التسوية السلمية، بعد الانتكاسات المتتالية التي مر بها هذا الخيار وتراجع أولوية التسوية السياسية على أجندة الخارجية الأميركية بعدما فرخ الشرق الأوسط قضايا وأزمات جديدة تشغل الرأس الأميركي أكثر من الصداع الفلسطيني الإسرائيلي الذي أدمنت عليه المنطقة. وعلى الجهة المقابلة هل تحمل مبررات الاستقالة التي لخصها ولفيستون: بصعوبة العمل بوجود حكومة حماس، رسالة من المجتمع الدولي هذه المرة عن اليأس من الوضع الراهن، وغمزة بالعين الأخرى للمضي قدماً بمخططات الحكومة الإسرائيلية القادمة لفرض الحل الإسرائيلي الأحادي على الأرض.

اضافة اعلان

تعيدنا هذه الاستقالة الى مناخات قريبة من الوضع الدولي الذي تلجأ اليه القوى التي تملك مفاتيح اللعبة يتم فيها إعادة ترتيب اولويات المنطقة؛ هذا ما حدث بالفعل في بدايات عهد الرئيس جورج بوش في فترته الرئاسية الأولى حينما قام بإلغاء منصب المبعوث الخاص الى الشرق الأوسط وهو منصب تولاه دينس روس منذ اثني عشر عاماً لكي ينتقل ملف التسوية السياسية كأحد الملفات العادية في وزارة الخارجية الأميركية، وحينها لعبت الدبلوماسية السعودية دورها المعروف وضغطت في الشهور القليلة السابقة على أحداث تفجيرات أيلول 2001 وطالبت بحدة الولايات المتحدة مراجعة سياساتها، وبالتحديد دعمها المفرط لشارون وسياسته، وقبل ذلك بسنة واحدة ألقت إدارة الرئيس كلينتون بالملف الفلسطيني الإسرائيلي جانباً بعدما وصلت التسوية حسب وجهة النظر الأميركية الى لحظات حاسمة كان فيها الحل النهائي في متناول اليد وتبادل الطرفان التهم بمسؤولية الفشل الذي آلت إليه جهود التسوية، ظهرت آنذاك مقولة رددتها أروقة الإدارة الأميركية ووسائل الأعلام الغربية تلخص الوضع في المنطقة وتفسر أسباب الفشل المتكرر في خلق تفاهمات جديدة بأن أطراف الصراع غير ناضجة وتحتاج الى طبخ على نار هادئة حيث جاء المسوغ الواضح لتخلي الإدارة الأميركية في آخر أيام كلينتون وفي بدايات عهد جورج بوش تحت شعار (دعوهم يطبخون بعضهم حتى ينضجوا).

ويتكرر حال تراجع المبعوثين الدوليين ووأد مهامهم السياسية أو الأمنية مرة تلو الأخرى في مناخ يلفه الغموض والتربص والانتظار. وفي المحصلة لا جديد سوى أن أطراف الصراع ما زالت بحاجة الى المزيد من الطبخ كي تنضج، ونتذكر هنا تعليق مهمة المبعوث الأميركي زيني الذي أرسل لإجراء ترتيبات أمنية بعد اندلاع الانتفاضة الثانية حيث تم تعليق هذه المهمة لأكثر من مرة بحجة تورط السلطة او أطراف فلسطينية بقصة زورق الأسلحة الذي وجد على محاذاة ساحل المتوسط وفي ضوء هذه الحادثة ومقتل ستة جنود اسرائيليين في عملية فدائية على احد الحواجز أعلن شارون في آذار من عام 2002 عزمه على تدشين جدار العزل العنصري الذي أصبح حقيقة اليوم.

وفي كل مرة منذ حوالي ثماني سنوات تنكسر الجهود السياسية، ويعلن عن ذلك بخطوة رمزية إما بتعليق مهمة الموفد الدولي او بإنهاء مهمة المبعوث الأميركي وأخيرا استقالة موفد الرباعية الدولية، المحصلة ان إسرائيل أجادت لعبة سيناريو الأمر الواقع واستفادت من فائض الزمن لصالح تفريغ فائض القوة السياسية الفلسطينية التي أخذت تتهاوى بشكل مريع. وانتقلت آلية إعلان اليأس الدولي لتصل الى طاولة مفاوضات مشتركة الى مقولة ان الطرف الفلسطيني وحده لم ينضج، وبدل من ان تتطاحن أطراف الصراع لكي تصل الى تصفية تفرض في النهاية طاولة التسوية، ارتضى المجتمع السياسي الفلسطيني لعبة الطحن والطبخ الداخلي، وكانت مقولة ان الطرف الآخر لا يوجد فيه شريك أساسي قادر على تحمل المسؤولية أحد تعبيرات الأطروحة المركزية القائلة باننا أمام مجتمع سياسي لم ينضج بعد يحتاج ان يتطاحن داخلياً وان يطبخ بعضه بعضا حتى ينضج ويستقر، ثم يتدخل المجتمع الدولي للنظر في إمكانيات الحل والتوصل الى تسويات.

لا ينكر الكثيرون بأن المجتمع السياسي الفلسطيني أصبح جزءا من المشكلة وشكل احد أعباء القضية في مراحلها الأخيرة، وعكس ما تعتقد بعض الاتجاهات فقد خدمت المتغيرات والظروف الدولية الأخيرة المسار السياسي الفلسطيني أكثر ما أضرته دون ان يتم استثمار ذلك بحده الأدنى في إحداث تراكم حقيقي يضفي الشرعية على المطالب الوطنية الفلسطينية ويحول كل مكتسب الى حق عادل لا يمكن التراجع عنه.

وباستعراض تطورات الأحداث منذ نهاية إدارة الرئيس كلينتون نلمس حجم الخسائر السياسية العربية والفلسطينية التي أهدرت مكتسبات لم تتحول الى حقوق معترف بها وتتمتع بالشرعية، ومنها المراجعة السعودية لمواقف الولايات المتحدة من الصراع قبيل تفجيرات أيلول، وخطاب الرئيس الأميركي في حزيران 2002 الذي تحدث لأول مرة عن سيناريو الدولتين، ثم تطورات حرب احتلال العراق التي تطلبت التهدئة على المسار الفلسطيني وخلصت الى خارطة الطريق المعروفة التي توصلت لها الرباعية وتحفظت عليه إسرائيل لاحقا.

وبالعودة الى إفلاس الرباعية كما تدل عليه استقالة موفدها؛ فإنّ المنطقة بانتظار خريف سياسي لا يدري احد كم سيقصر او يطول، مقابل الضعف السياسي الذي يلاحق التنظيمات الفلسطينية التي فشلت حتى بمجرد الالتقاء بعد تأجيل الموعد الذي دعا اليه رئيس السلطة. فالمشهد لا يدعو الى التفاؤل في ظل مجتمع سياسي مفكك فقد معظم مرجعياته الأيدلوجية، ولم يستطع إعادة تأسيسها من جديد ولا يستند الى استراتيجية واضحة لإدارة الصراع، كما يبدو من وضع رئاسة السلطة التي وجدت نفسها في موقف ضعيف لا تحسد عليه؛ فهي تظهر بوصفها اقرب الى الاميركيين  والاسرائيلين، ويبدو - كذلك- من حكومة حماس التي وجدت نفسها هي الأخرى قد ورطت الشعب الفلسطيني أكثر من ورطتها في الحكم من دون برنامج سياسي او استراتيجية واضحة او حتى بإعلان شروط جديدة للعبة.

لقد مرت سنوات الخلافات والاقتتال داخل المجتمع السياسي وفوق ارض الحلم الفلسطينية دون ان يوظف الحد الأدنى منها في إدارة الصراع، فلقد انتقلت الخلافات من التفاعلات الصراعية بين قوى الداخل وقوى الخارج الى الاشتباك بين الفصائل التي جاءت بها السلطة الى الداخل او التي نمت وترعرعت في كنفها. ثم تطور الصراع الى انشقاقات داخل التنظيمات المركزية التي تكشف ضعف تماسكها الداخلي، وانعكس ذلك في الانشقاقات السياسية وانشقاق الأجهزة الأمنية وفيما يسمى فوضى السلاح، وكما قيل قبل أكثر من خمس سنوات فقد طبقت هنا مقولة "مزيد من الطبخ كي ينضجوا" أكثر بحذافيرها، فحركة النضال الوطني الفلسطيني بكافة فصائلها وتنظيماتها هي اليوم اكبر حركة تحرير وطني عمراً في العالم ما زالت على قيد الحياة، وما زال المجتمع الدولي ينظر إليها وكأنها لم تصل سن الرشد بعد، وان وجدت هذه المقولة التي لم نصدقها بعد قرائن على الأرض، فان الجميع يشعر بأن المجتمع السياسي الفلسطيني بحاجة لميلاد جديد.

[email protected]