دوغما العقل في "إحالة أوراق الكاتب إلى المفتي"!

 

ربما تكون نكتة، لكن الانطباع الأول غير الواعي الذي تبادر إلى ذهني لدى مطالعة عنوان رئيسي في الصحيفة "...إحالة ديوان العناني إلى المفتي" هي أن أحداً ما، اسمه "ديوان العناني"  -عذراً على الحماقة- قد ارتكب جريمة قتل وأحيلت أوراقه إلى فضيلة المفتي للمصادقة على حكم الإعدام الصادر بحقه -على طريقة الأفلام المصرية، وشرعت بمحاولة تذكر القاتل والحادثة.. ولا أمزح، لم يخطر ببالي للوهلة الأولى أن يكون المقصود هو الزميل الشاعر زياد العناني، ولا أن يكون المحال إلى المصادقة على إعدامه هو ديوانه الشعري..

اضافة اعلان

ثم دققت في الخبر، ولم تتغير النتيجة كثيراً، ثمة حكم صدر بالإعدام على جزء من زياد العناني، وهو ينتظر المصادقة عليه من فضيلة المفتي، لأن كل كاتب يعرف طبيعة القطع الذي يصيب روحه عندما يحكم على عمله بالإعدام. ولنا أن نتصور الزميل الشاعر إسلام سمحان بين جدران السجن الضيقة عاماً كاملاً، وأي شاعر سيكون بعد أن يخرج.

تذكرت الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي كان رئيساً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وكان يتحدث عن ترجمة كتاب تشارلز دارون الشهير عن نظرية النشوء والارتقاء وأصل الأنواع. قال إن المجلس قد تحير بعد ترجمة الكتاب في كيفية إصداره، باعتبار إصداره يشكل للبعض اعتداء على خصوصية العقل العربي وأخلاقياته، ثم ذكر كيف احتال المعنيون بوضع العبارة الشهيرة على الغلاف الداخلي للكتاب، بمعنى "المجلس الأعلى غير مسؤول عن محتوى هذا الكتاب الذي يعبر عن رأي صاحبه فقط". وفكرت: تخيلوا عالماً عربياً أو إسلامياً لا يعرف شيئاً عن نظرية التطور والارتقاء في القرن العشرين، أو الحادي والعشرين، ولا يريد أن يعرف. وتصوروه لا يعرف شيئاً عن ماركس وإنجلز و"رأس المال"، أو عن فرويد ويونغ والتحليل النفسي، أو عن الاستنساخ أو غير ذلك من الموضوعات التي لا تنسجم قطعاً مع منظومة الفكر السائد في العالم العربي. ما الذي ينطوي عليه إنكار هذه الأطروحات وهي حاضرة موضوعياً في العالم الحقيقي، وكأن إغماض العين عنها ينفي وجودها.

لا تفهموني خطأ: إنني لا أحرض على المساس بالمعتقدات والأديان والأخلاق، ولا بالهوية الإسلامية لعالمنا العربي التي هي هويتنا نحن، أياً كانت معتقداتنا الخاصة. إنني أقصد فقط ضرورة التعرف إلى أنواع الفكر والأطروحات كافة، حتى ولو كان ذلك لأجل المعرفة فقط.. أما الأدب والفن، فلا يمكن أن يكون لهما وجود من دون إطلاق المخيلة وارتياد الآفاق كافة من دون محرمات، لأن قوام الفن هو التجريد والاستعارة والمجاز واللعب باللغة واللون والإيقاع.

خطرت لي حقيقة شديدة البداهة مؤخراً بينما أكتب شيئاً في معرض الدفاع عن الثقافة الإسلامية باعتبارها ليست ثقافة أصولية: إن منظومة الفكر الإسلامي في أطوارها الأولى الأكثر نقاء لم تكن أصولية بالمطلق، وإلا لما فتحت الباب، بل وشجعت وكافأت على ترجمة أفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وكل الفلسفة اليونانية والوسيطة "الإلحادية". السبب: لم يكن الفكر الإسلامي الناهض آنذاك يخشى افتتان العقول وردتها، لأنه كان يثق بقوة الفكرة التي هي هو، ويؤمن بأن الحوار الذي انفتح فعلاً بين الفرق والمتكلمين لا يمكن أن يفضي إلى انهزام هذه الفكرة. وقد انفتحت أوروبا الوسيطة أيضاً على فكرنا، فترجمت عنا الغزالي وابن رشد وابن سينا والكندي والفارابي، ولم تعدم كتب فولتير ودانتي وشكسبير، ولم تعد تحاكم أمثال غاليليو، وإلا، لظلت الشمس هي التي تدور حول الأرض.

أما فيما يتعلق بالأدب والتاريخ، فلنا أن نتصور ماذا كان ليحصل لو تمت إحالة بعض كتب التراث العربي إلى المفتي، ابتداء من أغاني أبي الفرج الأصفهاني وانتهاء بالليالي العربية "ألف ليلة وليلة". كانت المصادقة ستصدر حتماً على الحكم بإعدامها بلا رحمة، لأن فيها محتوى يمس بالحياء أو بالدين أو بالأخلاق. إن الأصولية شيء طارئ علينا بالمعنى السائد راهناً: العقل السكوني، والانغلاق على الآخر، والرعب الحقيقي من فتح الأذنين أو العينين على كل شيء وأي شيء، لأننا نخاف من الافتتان: هل لأننا على غير ثقة برسوخ الاعتقاد فينا؟

الفكرة الأساسية هي: من يكون أي أحد ليمتلك سلطة الحكم على أفكار الآخر بالإعدام؟ ببساطة، إن كان ما أكتبه لا يناسبك فلا تقرأني. وإن قرأتني فلا تؤولني على هواك، وليس ضرورياً أن أكتب ما هو على هواك، ثم يصادف أن تكون في موقع القرار للمصادرة على أفكاري بينما لست في موقع الرد عليك بالمثل.. المسألة ليست معركة، ولا ينبغي لها أن تكون. لا تقل لي لا تكتب "لا ينبغي لها أن تكون" لأن القرآن الكريم قال: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر"، وإلا أكون قد حرفت النص الذي أقدسه وأحترمه.

إن سيادة هذا العقل الدوغمائي ستتركنا من دون كتب، ربما سوى بعض عناوين الكتب الفقيرة نفسها التي تباع على "البسطات" وتحكي عن تفسير الأحلام والأرواد قبل النوم وبعده، والطب بالأعشاب.. سنكون بلا أنثروبولوجيا ولا فلسفة ولا روايات ولا شعر ولا سوسيولوجيا ولا اقتصاد سياسي.. فكم من المشانق سيلزم لإعدام الكتب "المنحرفة" التي تغص بها المكتبات؟

* مدير تحرير قسم الترجمة في "الغد"

[email protected]